الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما )

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما )

                                                                                                                                                                                                                                            اعلم أنه تعالى لما قدم ذكر الوعيد أتبعه بتفصيل ما يتعلق به ، فذكر هذه الآية ، وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : من الناس من قال : جميع الذنوب والمعاصي كبائر . روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال : كل شيء عصي الله فيه فهو كبيرة ، فمن عمل شيئا منها فليستغفر الله ، فإن الله تعالى لا يخلد في النار من هذه الأمة إلا راجعا عن الإسلام ، أو جاحدا فريضة ، أو مكذبا بقدر . واعلم أن هذا القول ضعيف لوجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الأولى : هذه الآية ، فإن الذنوب لو كانت بأسرها كبائر لم يصح الفصل بين ما يكفر باجتناب الكبائر وبين الكبائر .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الثانية : قوله تعالى : ( وكل صغير وكبير مستطر ) [ القمر : 53 ] وقوله : ( لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ) [ الكهف : 49 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الثالثة : أن الرسول - عليه الصلاة والسلام - نص على ذنوب بأعيانها أنها كبائر ، كقوله : " الكبائر : الإشراك بالله ، واليمين الغموس ، وعقوق الوالدين ، وقتل النفس " ، وذلك يدل على أن منها ما ليس من الكبائر .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الرابعة : قوله تعالى : ( وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان ) [ الحجرات : 7 ] وهذا صريح في أن المنهيات أقسام ثلاثة :

                                                                                                                                                                                                                                            أولها : الكفر .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : الفسوق .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : العصيان .

                                                                                                                                                                                                                                            فلا بد من فرق بين الفسوق وبين العصيان ؛ ليصح العطف ، وما ذاك إلا لما ذكرنا من الفرق بين الصغائر وبين الكبائر ، فالكبائر هي الفسوق ، والصغائر هي العصيان . واحتج ابن عباس بوجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : كثرة نعم من عصى .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : إجلال من عصى ، فإن اعتبرنا الأول ، فنعم الله غير متناهية ، كما قال : ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) [ إبراهيم : 34 ] وإن اعتبرنا الثاني فهو أجل الموجودات وأعظمها ، وعلى التقديرين وجب أن يكون عصيانه في غاية الكبر ، فثبت أن كل ذنب فهو كبيرة .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : كما أنه تعالى أجل الموجودات وأشرفها ، فكذلك هو أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين ، وأغنى الأغنياء عن طاعات المطيعين وعن ذنوب المذنبين ، وكل ذلك يوجب خفة الذنب .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : هب أن الذنوب كلها كبيرة من حيث إنها ذنوب ، ولكن بعضها أكبر من بعض ، وذلك يوجب التفاوت [ ص: 61 ] إذا ثبت أن الذنوب على قسمين بعضها صغائر وبعضها كبائر ، فالقائلون بذلك فريقان : منهم من قال : الكبيرة تتميز عن الصغيرة في نفسها وذاتها ، ومنهم من قال : هذا الامتياز إنما يحصل لا في ذواتها ، بل بحسب حال فاعليها ، ونحن نشرح كل واحد من هذين القولين .

                                                                                                                                                                                                                                            أما القول الأول : فالذاهبون إليه والقائلون به اختلفوا اختلافا شديدا ، ونحن نشير إلى بعضها :

                                                                                                                                                                                                                                            فالأول : قال ابن عباس : كل ما جاء في القرآن مقرونا بذكر الوعيد فهو كبيرة ، نحو قتل النفس المحرمة ، وقذف المحصنة ، والزنا ، والربا ، وأكل مال اليتيم ، والفرار من الزحف .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : قال ابن مسعود : افتتحوا سورة النساء ، فكل شيء نهى الله عنه حتى ثلاث وثلاثين آية فهو كبيرة ، ثم قال : مصداق ذلك : ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه ) .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : قال قوم : كل عمد فهو كبيرة . واعلم أن هذه الأقوال ضعيفة .

                                                                                                                                                                                                                                            أما الأول : فلأن كل ذنب لا بد وأن يكون متعلق الذم في العاجل والعقاب في الآجل ، فالقول بأن كل ما جاء في القرآن مقرونا بالوعيد فهو كبيرة يقتضي أن يكون كل ذنب كبيرة وقد أبطلناه .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما الثاني : فهو أيضا ضعيف ؛ لأن الله تعالى ذكر كثيرا من الكبائر في سائر السور ، ولا معنى لتخصيصها بهذه السورة .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما الثالث : فضعيف أيضا ؛ لأنه إن أراد بالعمد أنه ليس بساه عن فعله ، فما هذا حاله هو الذي نهى الله عنه ، فيجب على هذا أن يكون كل ذنب كبيرة ، وقد أبطلناه ، وإن أراد بالعمد أن يفعل المعصية مع العلم بأنها معصية ، فمعلوم أن اليهود والنصارى يكفرون بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وهم لا يعلمون أنه معصية ، وهو مع ذلك كفر كبير ، فبطلت هذه الوجوه الثلاثة .

                                                                                                                                                                                                                                            وذكر الشيخ الغزالي - رحمه الله - في منتخبات كتاب إحياء علوم الدين فصلا طويلا في الفرق بين الكبائر والصغائر ، فقال : فهذا كله قول من قال : الكبائر تمتاز عن الصغائر بحسب ذواتها وأنفسها .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما القول الثاني : وهو قول من يقول : الكبائر تمتاز عن الصغائر بحسب اعتبار أحوال فاعليها ، فهؤلاء الذين يقولون : إن لكل طاعة قدرا من الثواب ، ولكل معصية قدرا من العقاب ، فإذا أتى الإنسان بطاعة واستحق بها ثوابا ، ثم أتى بمعصية واستحق بها عقابا ، فههنا الحال بين ثواب الطاعة وعقاب المعصية بحسب القسمة العقلية يقع على ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أن يتعادلا ويتساويا ، وهذا وإن كان محتملا بحسب التقسيم العقلي إلا أنه دل الدليل السمعي على أنه لا يوجد ؛ لأنه تعالى قال : ( فريق في الجنة وفريق في السعير ) [ الشورى : 7 ] ولو وجد مثل هذا المكلف وجب أن لا يكون في الجنة ولا في السعير .

                                                                                                                                                                                                                                            والقسم الثاني : أن يكون ثواب طاعته أزيد من عقاب معصيته ، وحينئذ ينحبط ذلك العقاب بما يساويه من الثواب ، ويفضل من الثواب شيء ، ومثل هذه المعصية هي الصغيرة ، وهذا الانحباط هو المسمى بالتكفير .

                                                                                                                                                                                                                                            والقسم الثالث : أن يكون عقاب معصيته أزيد من ثواب طاعته ، وحينئذ ينحبط ذلك الثواب بما يساويه من العقاب ، ويفضل من العقاب شيء ، ومثل هذه المعصية هي الكبيرة ، وهذا الانحباط هو المسمى بالإحباط ، وبهذا الكلام ظهر الفرق بين الكبيرة وبين الصغيرة . وهذا قول جمهور المعتزلة .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 62 ] واعلم أن هذا الكلام مبني على أصول كلها باطلة عندنا .

                                                                                                                                                                                                                                            أولها : أن هذا مبني على أن الطاعة توجب ثوابا والمعصية توجب عقابا ، وذلك باطل ؛ لأنا بينا في كثير من مواضع هذا الكتاب أن صدور الفعل عن العبد لا يمكن إلا إذا خلق الله فيه داعية توجب ذلك الفعل ، ومتى كان كذلك امتنع كون الطاعة موجبة للثواب ، وكون المعصية موجبة للعقاب .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أن بتقدير أن يكون الأمر كذلك ، إلا أنا نعلم ببديهة العقل أن من اشتغل بتوحيد الله وتقديسه وخدمته وطاعته سبعين سنة ، فإن ثواب مجموع هذه الطاعات الكثيرة في هذه المدة الطويلة أكثر بكثير من عقاب شرب قطرة واحدة من الخمر ، مع أن الأمة مجمعة على أن شرب هذه القطرة من الكبائر ، فإن أصروا وقالوا : بل عقاب شرب هذه القطرة أزيد من ثواب التوحيد وجميع الطاعات سبعين سنة فقط - أبطلوا على أنفسهم أصلهم ، فإنهم يبنون هذه المسائل على قاعدة الحسن والقبح العقليين ، ومن الأمور المتقررة في العقول أن من جعل عقاب هذا القدر من الجناية أزيد من ثواب تلك الطاعات العظيمة فهو ظالم ، فإن دفعوا حكم العقل في هذا الموضع فقد أبطلوا على أنفسهم القول بتحسين العقل وتقبيحه ، وحينئذ يبطل عليهم كل هذه القواعد .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أن نعم الله تعالى كثيرة وسابقة على طاعات العبيد ، وتلك النعم السابقة موجبة لهذه الطاعات ، فكان أداء الطاعات أداء لما وجب بسبب النعم السابقة ، ومثل هذا لا يوجب في المستقبل شيئا آخر ، وإذا كان كذلك وجب أن لا يكون شيء من الطاعات موجبا للثواب أصلا ، وإذا كان كذلك فكل معصية يؤتى بها فإن عقابها يكون أزيد من ثواب فاعلها ، فوجب أن يكون جميع المعاصي كبائر ، وذلك أيضا باطل .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : أن هذا الكلام مبني على القول بالإحباط ، وقد ذكرنا الوجوه الكثيرة في إبطال القول بالإحباط في سورة البقرة ، فثبت أن هذا الذي ذهبت المعتزلة إليه في الفرق بين الصغيرة والكبيرة قول باطل ، وبالله التوفيق .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية