الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          [ ص: 113 ] مسألة : في قول الله تعالى { فمن تصدق به فهو كفارة له } قال الله تعالى { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له } ، قال علي : من قرأ : { والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص - } بالرفع في ذلك كله ، لا بالعطف على النفس بالنفس ، فهو حكم ثابت علينا لازم لنا ، ومن قرأها بالنصب في كل ذلك ، فهو معطوف على أن النفس بالنفس وأن ذلك من حكم التوراة .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : وكلتا القراءتين حق مشهور من عند الله تعالى ، فكلا المعنيين حق ، فكان ذلك مكتوبا في التوراة .

                                                                                                                                                                                          كل ذلك أيضا مكتوب علينا بحق ، فإذ ذلك كذلك فواجب أن ينظر في معنى قوله تعالى { فمن تصدق به فهو كفارة له } ، فوجدنا ما ناه حمام نا عبد الله بن محمد بن علي الباجي نا عبد الله بن يونس المرادي نا بقي بن مخلد نا أبو بكر بن أبي شيبة نا وكيع عن سفيان الثوري عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن الهيثم بن الأسود عن عبد الله بن عمرو في قوله تعالى { فمن تصدق به فهو كفارة له } قال : هدم عنه من ذنوبه مثل ذلك .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : فهذا يدل على أنه كفارة لذنوب المجروح المتصدق بحقه .

                                                                                                                                                                                          وبه : إلى أبي بكر بن أبي شيبة نا هشيم عن مغيرة عن إبراهيم النخعي في قوله تعالى { فمن تصدق به فهو كفارة له } قال : للمجروح .

                                                                                                                                                                                          وبه : إلى أبي بكر بن أبي شيبة نا يزيد بن هارون عن سفيان بن حسين عن الحسن قال فمن تصدق به فهو كفارة له قال : للمجروح ،

                                                                                                                                                                                          وعن الشعبي قال : للذي تصدق به .

                                                                                                                                                                                          قال علي : وقيل غير هذا : كما روينا بالسند المذكور إلى أبي بكر بن أبي شيبة نا الفضل بن دكين ، ويحيى بن آدم عن سفيان الثوري عن عطاء بن السائب عن [ ص: 114 ] سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى { فهو كفارة له } قال : للمجروح ، وأجر المتصدق على الله تعالى .

                                                                                                                                                                                          وعن جابر بن زيد قال : للمجروح - وعن مجاهد في قوله تعالى { فهو كفارة له } وأجر المتصدق على الله .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق وكيع نا سفيان عن زيد بن أسلم أنه سمعه يقول : إن عفا عنه ، أو اقتص منه ، أو قبل منه الدية فهو كفارة له .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق ابن أبي شيبة نا جرير ، ووكيع ، قال وكيع : عن سفيان ، ثم اتفق جرير ، وسفيان كلاهما عن منصور عن إبراهيم النخعي قال : كفارة للذي تصدق عليه ، وأجر الذي أصيب على الله تعالى .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : فلما اختلفوا - كما ذكرنا وجب أن نفعل ما أمرنا الله تعالى به إذ يقول { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } الآية ؟ ففعلنا ، فوجدنا نص قوله تعالى { فمن تصدق به فهو كفارة له } جاء بلغة العرب .

                                                                                                                                                                                          كما قال تعالى { بلسان عربي مبين } . ووجدنا في لغة العرب الضمير راجعا - ولا بد - إلى أقرب مذكور إلا بدليل . ووجدنا أقرب مذكور إلى { فهو كفارة له } الضمير الذي في { تصدق به } وهو ضمير المجني عليه المتصدق ، فلا يجوز إخراجه عن هذا إلا بدليل ، ولا دليل على ذلك .

                                                                                                                                                                                          وأما المتصدق عليه فإن الجاني فيما دون النفس إذا عفا عنه المجني عليه فإن غفر له ، وتصدق بحقه عليه ، فلا شك في أنه مغفور له ، ومكفر عنه ، لأن صاحب الحق قد أسقط حقه قبله .

                                                                                                                                                                                          وأما إذا لم يغفر له ، ولكنه أخر طلبه إلى الآخرة ، وأسقطه في الدنيا ، فبلا شك ندري أن حقه باق له قبله ، وأنه سيقتص يوم القيامة من حسناته .

                                                                                                                                                                                          وأما من قتل آخر - فعليه حقان : حق المقتول في ظلمه إياه ، وحق الولي في أخذ القود - فإن عفا الولي فإنما عفا عن حق نفسه ، ولا عفو له في حق غيره - وهو [ ص: 115 ] لمقتول - فحق المقتول باق عليه كما كان ، لقول الله تعالى { ولا تكسب كل نفس إلا عليها } وكما أخبر صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                          روينا من طريق مسلم نا قتيبة ، وابن حجر ، قالا جميعا : نا إسماعيل - هو ابن جعفر - عن العلاء - هو ابن عبد الرحمن - عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم { أتدرون من المفلس ؟ قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع ، فقال : إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة - ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا - فيعطى هذا من حسناته ، وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته - قبل أن يقضي ما عليه - أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار ، لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة ، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء } .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق البخاري نا عمر بن حفص بن غياث نا أبي نا الأعمش حدثني شقيق قال : سمعت عبد الله بن مسعود يقول " قال النبي صلى الله عليه وسلم : { أول ما يقضى بين الناس في الدماء . }

                                                                                                                                                                                          وبه إلى البخاري نا إسماعيل - هو ابن أبي أويس - نا مالك عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة " أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : { من كانت له مظلمة لأخيه فليتحلله منها فإنه ليس ثم دينار ولا درهم من قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته فإن لم تكن له حسنات يؤخذ من سيئات صاحبه فطرحت عليه } .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق البخاري نا الصلت بن محمد نا يزيد بن زريع نا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أبي المتوكل الناجي أن أبا سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { يخلص المؤمنون من النار فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة ، فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى إلى منزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا } . قال علي : وأما إذا قتل قودا فقد انتصف منه كما أمر الله تعالى فلا تبعة عليه وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية