الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في التروك

وهو ما يمنع الإحرام من الأمور المباحة للحلال .

والأصل من هذا الباب ما ثبت من حديث مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر : " أن رجلا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يلبس المحرم من الثياب ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا تلبسوا القمص ، ولا العمائم ، ولا السراويلات ، ولا البرانس ، ولا الخفاف إلا أحد لا يجد نعلين فيلبس خفين وليقطعهما أسفل من الكعبين ، ولا تلبسوا من الثياب شيئا مسه الزعفران ولا الورس " . فاتفق العلماء على بعض الأحكام الواردة في هذا الحديث ، واختلفوا في بعضها

[ 1 - لبس المخيط ]

فمما اتفقوا عليه أنه لا يلبس المحرم قميصا ، ولا شيئا مما ذكر في هذا الحديث ، ولا ما كان في معناه من مخيط الثياب ، وأن هذا مخصوص بالرجال - أعني : تحريم لبس المخيط - ، وأنه لا بأس للمرأة بلبس [ ص: 272 ] القميص والدرع والسراويل والخفاف والخمر .

واختلفوا فيمن لم يجد غير السراويل هل له لباسها ؟ فقال مالك وأبو حنيفة : لا يجوز له لباس السراويل وإن لبسها افتدى . وقال الشافعي والثوري وأحمد وأبو ثور وداود : لا شيء عليه إذا لم يجد إزارا .

وعمدة مذهب مالك : ظاهر حديث ابن عمر المتقدم ، قال : ولو كان في ذلك رخصة لاستثناها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما استثنى في لبس الخفين .

وعمدة الطائفة الثانية : حديث عمرو بن دينار عن جابر وابن عباس قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " السراويل لمن لم يجد الإزار ، والخف لمن لم يجد النعلين " .

وجمهور العلماء على إجازة لباس الخفين مقطوعين لمن لم يجد النعلين . وقال أحمد : جائز لمن لم يجد النعلين أن يلبس الخفين غير مقطوعين أخذا بمطلق حديث ابن عباس . وقال عطاء : في قطعهما فساد والله لا يحب الفساد .

واختلفوا فيمن لبسهما مقطوعين مع وجود النعلين ، فقال مالك : عليه الفدية ، وبه قال أبو ثور . وقال أبو حنيفة : لا فدية عليه ، والقولان عن الشافعي ، وسنذكر هذا في الأحكام .

وأجمع العلماء على أن المحرم لا يلبس الثوب المصبوغ بالورس والزعفران ; لقوله - عليه الصلاة والسلام - في حديث ابن عمر : " لا تلبسوا من الثياب شيئا مسه الزعفران ولا الورس " .

واختلفوا في المعصفر ، فقال مالك : ليس به بأس فإنه ليس بطيب . وقال أبو حنيفة والثوري : هو طيب وفيه الفدية ، وحجة أبي حنيفة ما خرجه مالك عن علي : " أن النبي - عليه الصلاة والسلام - نهى عن لبس القسي وعن لبس المعصفر " .

وأجمعوا على أن إحرام المرأة في وجهها ، وأن لها أن تغطي رأسها وتستر شعرها ، وأن لها أن تسدل ثوبها على وجهها من فوق رأسها سدلا خفيفا تستتر به عن نظر الرجال إليها ، كنحو ما روي عن عائشة أنها قالت : " كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن محرمون فإذا مر بنا ركب سدلنا على وجوهنا الثوب من قبل رءوسنا ، وإذا جاوز الركب رفعناه " . ولم يأت تغطية وجوههن إلا ما رواه مالك عن فاطمة بنت المنذر أنها قالت : " كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات مع أسماء بنت أبي بكر الصديق " .

واختلفوا في تخمير المحرم وجهه بعد إجماعهم على أنه لا يخمر رأسه ، فروى مالك عن ابن عمر : " أن ما فوق الذقن من الرأس لا يخمره المحرم " ، وإليه ذهب مالك ، وروي عنه : أنه إن فعل ذلك ولم ينزعه مكانه افتدى . وقال الشافعي والثوري وأحمد وأبو داود وأبو ثور : يخمر المحرم وجهه إلى الحاجبين ، وروي من الصحابة عن عثمان وزيد بن ثابت وجابر وابن عباس وسعد بن أبي وقاص .

واختلفوا في لبس القفازين للمرأة فقال مالك : إن لبست المرأة القفازين افتدت ، ورخص فيه الثوري ، وهو مروي عن عائشة . والحجة لمالك ما خرجه أبو داود عن النبي - عليه الصلاة والسلام - : " أنه نهى عن النقاب والقفازين " . وبعض الرواة يرويه موقوفا عن ابن عمر ، وصححه بعض رواة الحديث - أعني : رفعه إلى النبي - عليه الصلاة والسلام - .

فهذا هو مشهور اختلافهم واتفاقهم في اللباس ، وأصل الخلاف في هذا كله : اختلافهم في قياس بعض [ ص: 273 ] المسكوت عنه على المنطوق به ، واحتمال اللفظ المنطوق به وثبوته أو لا ثبوته .

التالي السابق


الخدمات العلمية