3160 (22) كتاب القسامة والقصاص والديات
(1) باب في كيفية القسامة وأحكامها
[ 1759 ] عن سهل بن أبي حثمة: أنه أخبر عن رجال من كبراء قومه: عبد الله بن سهل، ومحيصة خرجا إلى خيبر من جهد أصابهم، فأتى محيصة فأخبر: أن عبد الله بن سهل قد قتل، فطرح في عين أو فقير، فأتى يهود فقال: أنتم والله قتلتموه، قالوا: والله ما قتلناه، ثم أقبل حتى قدم على قومه، فذكر ذلك لهم، ثم أقبل هو وأخوه حويصة، - وهو أكبر منه - وعبد الرحمن بن سهل، فذهب محيصة ليتكلم - وهو الذي كان بخيبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمحيصة: حويصة، ثم تكلم محيصة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إما أن يدوا صاحبكم، وإما أن يؤذنوا بحرب. كبر كبر. يريد السن - فتكلم
فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم في ذلك، فكتبوا: إنا والله ما قتلناه..........، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحويصة، ومحيصة، وعبد الرحمن: أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم؟.
قالوا: لا والله. وفي رواية: أن
قال: فتحلف لكم يهود. قالوا: ليسوا بمسلمين.
فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده، فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة ناقة حمراء، حتى أدخلت عليهم الدار، فقال سهل: فلقد ركضتني منها ناقة حمراء. فقالوا: يا رسول الله! ما شهدنا، ولا حضرنا.
وفي رواية: فقالوا: يا رسول الله! (كيف نقبل أيمان قوم كفار؟) بدل: (ليسوا بمسلمين).
وفي أخرى: فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبطل دمه، فوداه مائة من إبل الصدقة.
رواه (7192)، البخاري (1669) (6 و 1 و 5) ومسلم (4520 و 4521)، وأبو داود (1422)، والترمذي (8 \ 9) والنسائي (2677) وابن ماجه
كتاب القسامة والقصاص والديات
- باب في كيفية القسامة وأحكامها
- باب القصاص في العين وحكم المرتد
- باب القصاص في النفس بالحجر
- باب من عض يد رجل فانتزع يده فسقطت ثنية العاض
- باب القصاص في الجراح
- باب لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث
- باب تحريم الدماء والأموال والأعراض
- باب الحث على العفو عن القصاص بعد وجوبه
- باب دية الخطأ على عاقلة القاتل وما جاء في دية الجنين
التالي
السابق
[ ص: 5 ] (22)
كتاب القسامة والقصاص
(1) ومن باب: كيفية القسامة وأحكامها
في الصحاح: وكذلك: المقسم. وهو المصدر، مثل: المخرج. والمقسم أيضا: موضع القسم، قال زهير: يقال: أقسمت: حلفت. وأصله من القسامة، وهي: الأيمان تقسم على الأولياء في الدم. والقسم - بالتحريك -: اليمين.
( قوله: فأتى محيصة فقال: أنتم والله قتلتموه ) ظاهره: أنه لم يكن هناك [ ص: 6 ] لوث يستند إليه في دعواه على اليهود إلا كون القتيل وجد في محلتهم وقريتهم.
وإلى هذا ذهب ، أبو حنيفة ، ومعظم الكوفيين. فرأوا: أن ذلك لوث يوجب القسامة، ولم يروا لوثا غيره تمسكا بهذا الحديث. ولم ير الجمهور: والثوري ، مالك ، والشافعي ، والليث ، وأحمد وداود ، وغيرهم، ذلك لوثا موجبا للقسامة، والقتيل هدر; لأنه قد يقتل الرجل الرجل ويلقيه في محلة القوم ليلطخهم به، غير أن قال: إلا أن يكون مثل القصة التي حكم فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - في الشافعي خيبر ، فتجب فيها القسامة; لما بين اليهود والأنصار من العداوة، ولأنه لم يكن هنالك سواهم; ولأن عبد الله خرج بعد العصر، فوجد قتيلا قبل الليل. ونحوه قال . وقد تأول أحمد هذا على النسائي . مالك
قلت: وحاصل ما قال هؤلاء: إن هذه القضية اجتمعت فيها قرائن غير كون القتيل وجد في محلتهم، وإن المحلة لم تنفرد باللوث، بل مجموع ما أبدوه من القرائن. وما قالوه صحيح; إذ لا معين، ولا مخصص، ولا ما يدل على إلغاء ما أبدوه.
وقد اختلف العلماء في الأمور التي تكون لوثا. ومجموع ما اختلف فيه من ذلك سبعة أمور:
أحدها: المحلة، وقد ذكرناها.
وثانيها: قول القتيل: دمي عند فلان. أو فلان قتلني عمدا. أو ضربني; وجد به أثر، أو لم يوجد. فقال ، مالك : إنه لوث يوجب القسامة. قال [ ص: 7 ] والليث : إنه مما اجتمع عليه في الحديث والقديم، وروي عن مالك . وشرط بعض أصحاب عبد الملك بن مروان وجود الأثر والجرح، وتمسك مالك في ذلك بقصة قتيل بقرة مالك بني إسرائيل ، فإنه لما حيي القتيل قال: فلان قتلني. فاعتمد على ذلك، وبأن المسلم المشرف على الموت لا يتهم بكذب يسفك به دم مسلم عند آخر عهده بالدنيا، فظاهر حاله الصدق. وقد خالفه في ذلك سائر العلماء، ولم يروا شيئا من ذلك لوثا.
وثالثها: شهادة غير البينة القاطعة. ولم يختلف قول ، مالك ، والشافعي : في أن الشاهد الواحد العدل ولفيف الناس لوث; واختلف قول والليث في الواحد غير العدل، وفي المرأة. هل ذلك لوث أم لا؟ وجعل مالك الليث وربيعة ويحيى بن سعيد شهادة النساء، والعبيد، والذميين لوثا. وقال بعض أصحابنا: شهادة النساء والصبيان لوث. وأباه أكثرهم.
ورابعها: أن يشهد شاهدان على الجرح، ثم يحيا المجروح حياة بينة، ثم يموت. فذلك لوث يوجب القسامة عند ، وأصحابه، مالك . واختلف عندنا فيما إذا شهد بالجرح شاهد واحد; هل يوجب ذلك قسامة أم لا؟ على قولين، والأصح: أنها لا تجب إلا بشاهدين. ولم ير والليث ، ولا الشافعي في هذا قسامة، بل القصاص من غير قسامة. أبو حنيفة
وخامسها: وجود المتهم عند المقتول، أو قربه، أو آتيا من جهته وعليه آثار القتل من التلطخ بالدم وشبهه. فهو لوث عند . وقال مالك نحوه. قال: [ ص: 8 ] وذلك: إذا لم يوجد هنالك أحد به أثر، ولا سبع. قال: ولو وجد في بيت، أو دار، أو صحراء قتيل ليس فيها أحد سواهم فيتفرقون عن قتيل. فهذا كله شبهة توجب القسامة. الشافعي
وسادسها: فئتان تقتتلان، فيوجد بينهما قتيل; ففيه روايتان:
إحداهما: أن كان من الفئتين، أو غيرهم. أولياءه يقسمون على من يدعون عليه، أو من يدعي عليه المقتول;
والأخرى: لا قسامة فيه في هذه الوجوه، وفيه إن كان منها، وعلى الطائفتين إن كان من غيرهما، وبالقسامة في هذا قال الدية على الطائفة التي نازعت طائفته; . وقال الشافعي أحمد وإسحاق : عقله على الفئة المنازعة; فإن عينوا رجلا ففيه القسامة.
وسابعها: الميت في مزاحمة الناس. قال : تجب بذلك القسامة، وتكون فيه الدية. وعند الشافعي : هو هدر. وقال مالك إسحاق ، : ديته على بيت المال. وروي مثله عن والثوري ، عمر - رضي الله عنهما - وقال وعلي الحسن ، : ديته على من حضر. والزهري
وقوله: ( ثم أقبل هو وأخوه حويصة ) يعني به: محيصة . وهما ابنا مسعود بن زيد . والمشهور في حويصة ومحيصة تخفيف الياء. وقد رويا بكسر الياء وتشديدها. وعلى الوجهين فهما مصغران، والمقتول: عبد الله بن سهل بن زيد ، وأخوه عبد الرحمن بن سهل ، فالأربعة بنو عم، بعضهم لبعض. وإنما تقدم محيصة بالكلام لكونه كان بخيبر حين قتل عبد الله ، غير أنه كان أصغر سنا من حويصة ; ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ( كبر، كبر ) أي: قدم للكلام قبلك من هو أكبر سنا منك. فتقدم حويصة ، وكأنه كان أكبر منه ومن عبد الرحمن أخي المقتول.
[ ص: 9 ] ففيه من الفقه: أن المشتركين في طلب حق ينبغي لهم أن يقدموا للكلام واحدا منهم، وأحقهم لذلك أسنهم; إذا كانت له أهلية القيام بذلك. وهذا كما قال في "الإمام": فإن كانوا في الفقه سواء فأقدمهم سنا. وقد قدمنا أن كبر السن لم يستحق التقديم إلا من حيث القدم في الإسلام، والسبق إليه، والعلم به، وممارسة أعماله وأحواله، والفقه فيه، ولو كان الشيخ عريا عن ذلك لاستحق التأخير، ولكان المتصف بذلك هو المستحق للتقديم - وإن كان شابا - وقد قدم وفد على عمر بن عبد العزيز له: كبر، كبر. عمر فقال: يا أمير المؤمنين! لو كان الأمر بالسن لكان هنا من هو أولى بالخلافة منك! فقال: تكلم. فتكلم فأبلغ، فأوجز. فتقدم شاب للكلام، فقال
و (قوله - بعد سماع كلام المدعين -: ( إما أن يدوا صاحبكم، وإما أن يؤذنوا بحرب ) هذا الكلام من النبي - صلى الله عليه وسلم - على جهة التأنيس والتسلية لأولياء المقتول، وعلى جهة الإخبار بالحكم على تقدير ثبوت القتل عليهم. لا أن ذلك كان حكما من النبي - صلى الله عليه وسلم - على اليهود في حال غيبتهم، فإنه بعد لم يسمع منهم، ولا حضروا حتى يسألهم؛ ولذلك كتب إليهم بعد أن صدر منه ذلك القول. ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن سمع الدعوى لم يستحضر المدعى عليهم إليه.
وفيه من الفقه: أن مجرد الدعوى لا يوجب إحضار المدعى عليه; لأن في إحضاره منعا له من أشغاله، وتضييعا لما له من غير موجب ثابت. فلو ظهر هنالك [ ص: 10 ] ما يقوي دعوى المدعي من لطخ، أو شبهة، لتعين أن يستحضر ويسمع جوابه عما ادعي عليه. ثم قد يختلف هذا في القرب والبعد، وشدة الضرر، وقلته.
و (قوله: فكتبوا: إنا والله ما قتلناه !) فيه من الفقه: وأن الاكتفاء بالكتب، وبأخبار الآحاد مع إمكان المشافهة، اليمين قبل استدعائها، وتوجهها لا اعتبار بها.
و (قوله للمدعين: [ أتحلفون خمسين يمينا ]) دليل: على أن وهو قول معظم القائلين: بأن القسامة يستوجب بها الدم. وقال القسامة يبدأ فيها المدعون بالأيمان. : الذي أجمعت عليه الأمة في القديم والحديث: أن المدعين يبدؤون في القسامة، وخالف في ذلك الكوفيون، وكثير من البصريين، والمدنيين، مالك . وروي عن والأوزاعي ، الزهري - رضي الله عنه - وقالوا: يبدأ بالمدعى عليهم; متمسكين في ذلك بالأصل الذي دل عليه وعمر بن الخطاب وبأنه قد روي هذا الحديث من طرق ذكرها قوله - صلى الله عليه وسلم - للمدعي: (شاهداك، أو يمينه) ، أبو داود . ذكر فيها: أنه - صلى الله عليه وسلم - طالب المدعين بالبينة. فقالوا: ما لنا بينة، فقال: ( فتحلف لكم يهود خمسين يمينا ). وهذا هو الأصل المقطوع به في باب الدعاوى; الذي نبه الشرع على حكمته بقوله: والنسائي البينة على المدعي، واليمين على من أنكر). وقد أجاب الجمهور عن ذلك: بأن الصحيح المشهور المعروف من حديث (لو أعطي الناس بدعاويهم لاستحل رجال دماء رجال وأموالهم، ولكن حويصة ومحيصة تبدئة المدعين بالأيمان. وهي رواية الأئمة الحفاظ [ ص: 11 ] بالطرق المسندة المستفيضة، وما ذكروه مما رواه أبو داود بالطرق المسندة المستفيضة، وما ذكروه مما رواه والنسائي أبو داود : مراسيل، وغير معروفة عند المحدثين، وليست مما تعارض بها الطرق الصحاح; فيجب ردها بذلك. وأجابوا عن التمسك بالأصل: بأن هذا الحكم أصل بنفسه لحرمة الدماء، ولتعذر إقامة البينة على القتل غالبا. فإن القاصد للقتل إنما يطلب الخلوة، والغيلة، بخلاف سائر الحقوق، وبشهادات الروايات الصحيحة لهذا الأصل الخاص بهذا الحكم الخاص، وبقي ما عداه على ذلك الأصل الآخر. ثم ليس ذلك خروجا عن ذلك الأصل بالكلية. وذلك أن المدعي إنما كان القول قوله لقوة جنبته بشهادة الأصل له بالبراءة مما ادعي عليه، وذلك المعنى موجود هنا، فإنه إنما كان القول قول المدعين لقوة جنبتهم باللوث الذي يشهد لهم بصدقهم. فقد أعملنا ذلك الأصل، ولم نطرحه بالكلية. والنسائي
و (قوله: أتحلفون خمسين يمينا ؟) وفي الأخرى: ( أيقسم خمسون منكم ؟) دليل: على استحقاق هذا العدد من الأيمان، فلا يجزئ فيها أقل من ذلك. فإن كان المستحقون خمسين حلف كل واحد منهم يمينا واحدة. فإن كانوا أقل من ذلك، أو نكل منهم من لا يجوز عفوه ردت الأيمان عليهم بحسب عددهم. لا يحلف فيه الواحد من الرجال ولا النساء، يحلف الأولياء ومن يستعين بهم الأولياء من العصبة خمسين يمينا. هذا مذهب ولا يحلف في العمد أقل من اثنين من الرجال، ، مالك ، والليث ، وربيعة ، والثوري ، والأوزاعي وأحمد وداود ، وأهل الظاهر. واختلف عن فيما إذا زاد الأولياء على الخمسين. هل يحلف كلهم يمينا يمينا؟ أو يقتصر منهم على خمسين؟ وهذا هو الأولى لقوله: ( يحلف خمسون منكم ) و(من) للتبيين. والخطاب لجميع الأولياء. فأفاد [ ص: 12 ] ذلك: أنهم إذا حلف منهم خمسون أجزأ. مالك
وأما عند القائلين بها: فيحلف فيها الواحد من الرجال، والنساء، فمهما كملت خمسون يمينا من واحد أو أكثر استحق الحالف ميراثه، ومن نكل لم يستحق شيئا. فإن جاء من غاب حلف من الأيمان ما كان يجب عليه لو حضر بحسب ميراثه. هذا قول القسامة في الخطأ المشهور عنه. وقد روي عنه: أنه لا يرى في الخطأ قسامة. وقال مالك : لا ينقص من ثلاثة أنفس. وقال الليث : لا يحلف في العمد، ولا في الخطأ إلا أهل الميراث على قدر مواريثهم. ولا يحلف على مال من لا يستحقه. وهو قول الشافعي ، أبي ثور وابن المنذر .
و (قوله: وتستحقون دم صاحبكم )، وفي الرواية الأخرى: ( فيدفع إليكم برمته ) نص في أن القسامة يستحق بها الدم. وهو مذهب معظم الحجازيين، وهو قول ، الزهري ، وربيعة ، والليث ، وأصحابه، ومالك ، والأوزاعي ، وأبي ثور ، وأحمد وإسحاق ، وداود ، وأحد قولي . وروي ذلك عن الشافعي ، ابن الزبير رضي الله عنهم. قال وعمر بن عبد العزيز : قتلنا بالقسامة وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متوافرون; إني لأراهم ألف رجل، فما اختلف منهم في ذلك اثنان. وقال الكوفيون، أبو الزناد وإسحاق ، - في قوله الآخر -: إنما تجب بها الدية. وهو قول والشافعي ، الحسن البصري والحسن بن حي ، والبتي ، ، والنخعي . وروي عن والشعبي ، أبي بكر ، وعمر ، وابن عباس . والحديث المتقدم نص في موضع الخلاف، فلا ينبغي أن يعدل عنه. ومعاوية
و (قوله: على رجل منهم ) وفي اللفظ الآخر: ( وتستحقون دم صاحبكم ) دليل على أن وهو قول القسامة إنما تكون على واحد. ، ومشهور قول [ ص: 13 ] أحمد . وقال مالك : لهم أن يقسموا على جماعة، ويختارون واحدا للقتل، ويسجن الباقون عاما، ويضربون مائة مائة. وقال أشهب : يقتل بها الجماعة. وهو قول المغيرة في القديم. وذهب الشافعي من أصحابه: إلى أنه يقسم على الجماعة، ويقتل منهم واحد. وقد فهم ابن سريج من قوله: ( وتستحقون دم صاحبكم ): أنه لا يحلف إلا الورثة الذين يستحقون المال. وهو فهم عجيب ينبني على أن المستحق بالقتل العمد تخيير الولي بين القصاص وبين الدية. وسيأتي ذلك إن شاء الله. وقد بناه بعضهم على قولته الأخرى: في أن المستحق بالقسامة الدية لا القصاص. وهو خلاف نص الحديث. الشافعي
و (قوله: ما حضرنا، ولا شهدنا ) وفي اللفظ الآخر: [أمر لم نحضره، فكيف نحلف عليه ؟!] دليل: على أن الأيمان في القسامة على القطع. وهو الأصل في الأيمان، إلا أن يتعذر ذلك فيها، كما سيأتي تفصيل ذلك. وسبب ذلك: أن الحالف جازم في دعواه، فلا يحلف إلا على ما تحققه، كالشاهد، غير أنه لا يشترط في تحقيق ذلك الحضور والمشاهدة; إذ قد يحصل له التحقيق من الأخبار، والنظر في قرائن الأحوال.
و (قوله: فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم ) دليل: على أن من توجهت عليه يمين فنكل عنها: أنه لا يقضى عليه بمجرد النكول حتى ترد اليمين على الآخر، ويحلف. وهو قول ، مالك . وروي عن والشافعي ، عمر ، وعثمان ، وجماعة من السلف. وقال وعلي ، والكوفيون، أبو حنيفة : يقضى عليه [ ص: 14 ] دون رد اليمين. وقال وأحمد بن حنبل : يؤخذ باليمين. ومعنى تبرئكم ابن أبي ليلى يهود : أي: يبرؤون إليكم مما طالبتموهم به، فتبرؤون أنتم منهم; إذ ينقطع طلبكم عنهم شرعا.
وفيه دليل على أن الأيمان المردودة لا تكون أقل من خمسين يمينا من خمسين رجلا إذا كان المدعى عليهم خمسين. فإن كانوا أقل من ذلك حلفوا خمسين يمينا، وردت عليهم بحسب عددهم. وهل لهم أن يستعينوا بمن يحلف معهم من أوليائهم أم لا ؟ قولان. فمشهور مذهب : لهم الاستعانة. وعليه فلا يحلف فيها أقل من اثنين. ولا يحلف المدعى عليه معهم إلا أن لا يجد من يحلف معه، فيحلف هو خمسين يمينا. وروى مالك عن مطرف : أنه لا يحلف مع المدعى عليه أحد، ويحلف هم أنفسهم كانوا واحدا أو أكثر خمسين يمينا يبرئون بها أنفسهم. وهو قول مالك . وهو الصحيح; لأن من لم يدع عليه لم يكن له سبب يتوجه عليه به يمين، ثم مقصود هذه الأيمان: البراءة من الدعوى. ومن لم يدع عليه بريء، ولأن أيمانهم على أن وليهم لم يقتل شهادة على نفي، وهي باطل. وأيضا فقد قال الله تعالى: الشافعي ولا تزر وازرة وزر أخرى [الإسراء: 15]
و (قوله: فيدفع برمته ) هو بضم الراء، وهو: الحبل البالي. وأصله: أن رجلا سلم رجلا لآخر بحبل في عنقه ليقتله، فقيل: ذلك لكل من سلم شيئا بكليته، ولم يبق له به تعلق. والرمة - بكسر الراء -: العظم البالي. يقال: رم العظم، وأرم: إذا بلي. والرميم: الشيء البالي المتفتت كالورق، المتهشم، ومنه قوله تعالى: ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم [الذاريات: 42]
و (قول المدعين: كيف نقبل أيمان قوم كفار ) هذا استبعاد لصدقهم وتقريب [ ص: 15 ] لإقدامهم على الكذب، وجرأتهم على الأيمان الفاجرة. وعلى هذا يدل قولهم: ( ليسوا بمسلمين ) أي: ما هم عليه من الكفر والعداوة للمسلمين يجرؤهم على الأيمان الكاذبة، لكنهم مع هذا كله لو رضوا بأيمانهم لحلفوا لهم، ولا خلاف أعلمه في أن الكافر إذا توجهت عليه يمين: أنه يحلفها أو يعد ناكلا.
وبماذا يحلف؟ فالمشهور عن : أنه إنما يحلف بالله; الذي لا إله إلا هو. سواء كان يهوديا، أو نصرانيا، أو غيرهما من الأديان، كما يحلف المسلم. وفيه نظر. وروى مالك عن الواقدي : أن اليهودي يحلف بالله الذي أنزل التوراة على مالك موسى . والنصراني: بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسى . وهذا القول أمشى على الأصول من الأول؛ وذلك أنا إذا أجبرنا النصراني على أن يحلف بالتوحيد مع قطعنا بأنه خلاف معتقده، ودينه; فقد أجبرناه على الخروج عن دينه، مع أنا قد عاهدناه على إبقائه على اعتقاده، ودينه. وأيضا: فلا مانع له من أن يقدم على الحلف بذلك; إذ هو في اعتقاده ليس بصحيح. فالأولى القول الثاني. ويحلف في المواضع التي يعتقد تعظيمها.
و (قوله: فوداه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عنده ) إنما وهذا اللفظ الذي هو: ( من عنده ) ظاهر في: أن فعل ذلك على مقتضى كرم خلقه، وحسن إيالته، وجلبا للمصلحة، ودفعا للمفسدة، وإطفاء للثائرة، [ ص: 16 ] وتأليفا للأغراض المتنافرة عند تعذر الوصول إلى استيفاء الحق لتعذر طرقه. وهذا أصح من رواية من روى: أنها كانت من إبل الصدقة; إذ قد قيل: إنها غلط من بعض الرواة; إذ الإبل التي دفع كانت من ماله. ليس هذا من مصارف الزكاة.
قلت: والأولى ألا يغلط الراوي العدل الجازم بالرواية ما أمكن. ويحتمل ذلك أوجها من التأويلات:
أحدها: أنه تسلف ذلك من مال الصدقة; حتى يؤديها من الفيء.
وثانيها: أن يكون أولياء القتيل مستحقين للصدقة، فأعطاها إياهم في صورة الدية، تسكينا لنفرتهم وجبرا لهم; مع أنهم مستحقون لها.
وثالثها: أنه أعطاهم تلك من سهم المؤلفة قلوبهم؛ استئلافا لهم، واستجلابا لليهود .
ورابعها: قول من قال: إنه يجوز صرف الصدقة في مثل هذا; لأنه من المصالح العامة. وهذا أبعد الوجوه; لقوله تعالى: إنما الصدقات للفقراء والمساكين الآية [التوبة: 60] .
تفسير غريبه: الفريضة: واحدة الفرائض، وهي: النوق المأخوذة في الزكاة والدية. وقد فسرها في الرواية التي قال فيها: ( فلقد ركضتني منها ناقة حمراء ) وأصل الفرض: التقدير، كما تقدم. ولا معنى لقول من قال: إنها المسنة [ ص: 17 ] من الإبل.
والشربة - بفتح الشين والراء - هي: حوض في أصل النخلة تشرب منه النخلة. وجمعه: شرب - بفتح الراء - وهي التي عبر عنها في الرواية الأخرى بـ (الفقير). وقيل: الفقير: هو الحفر العميق الذي يحفر للفسيلة. والجهد - بفتح الجيم -: الشدة والمشقة. والجهد - بضمها -: غاية الوسع والطاقة. وقد تقدم القول في (الرمة). والعقل: الدية. وسميت بذلك: لأن الإبل كانت تعقل بفناء المستحقين للدية.
وفيه من الفقه: أن أهل الذمة يحكم عليهم بحكم الإسلام، لا سيما إذا كان الحكم بين ذمي ومسلم، فإنه لا يختلف في ذلك. وكذلك لو كان المقتول من أهل الذمة فادعي به على مسلم; فإن ولاة الدم يحلفون خمسين يمينا، ويستحقون به دية ذمي. هذا قول . مالك
وقال بعض أصحابه: يحلف المسلم المدعى عليه خمسين يمينا، ويبرأ، ولا تحمل العاقلة ديته. فلو قام للذمي شاهد واحد بالقتل; فقال : يحلف ولاته يمينا واحدة ويستحقون الدية من ماله في العمد، ومن عاقلته في الخطأ. وقال غيره: يحلف المدعى عليه خمسين يمينا ويجلد مائة، ويحبس عاما. مالك
وفيه ما يدل على جواز سماع حجة أحد الخصمين في غيبة الآخر. وأن أهل الذمة إن امتنعوا من فعل ما وجب عليهم لنقض عهدهم.
والحديث كله حجة واضحة للجمهور من السلف والخلف على من أنكر وهم: العمل بالقسامة; ، سالم بن عبد الله وأبو قلابة ، ، ومسلم بن خالد [ ص: 18 ] وقتادة ، وبعض المكيين. فنفوا الحكم بها شرعا في العمد والخطأ. وقد روي ذلك عن وابن علية ، عمر بن عبد العزيز . وقد روي عنهما العمل بها. وقد روي نفي العمل بها عن والحكم بن عتيبة . سليمان بن يسار
كتاب القسامة والقصاص
(1) ومن باب: كيفية القسامة وأحكامها
في الصحاح: وكذلك: المقسم. وهو المصدر، مثل: المخرج. والمقسم أيضا: موضع القسم، قال زهير: يقال: أقسمت: حلفت. وأصله من القسامة، وهي: الأيمان تقسم على الأولياء في الدم. والقسم - بالتحريك -: اليمين.
.................... بمقسمة تمور بها الدماء
[ يعني: بمكة ].( قوله: فأتى محيصة فقال: أنتم والله قتلتموه ) ظاهره: أنه لم يكن هناك [ ص: 6 ] لوث يستند إليه في دعواه على اليهود إلا كون القتيل وجد في محلتهم وقريتهم.
وإلى هذا ذهب ، أبو حنيفة ، ومعظم الكوفيين. فرأوا: أن ذلك لوث يوجب القسامة، ولم يروا لوثا غيره تمسكا بهذا الحديث. ولم ير الجمهور: والثوري ، مالك ، والشافعي ، والليث ، وأحمد وداود ، وغيرهم، ذلك لوثا موجبا للقسامة، والقتيل هدر; لأنه قد يقتل الرجل الرجل ويلقيه في محلة القوم ليلطخهم به، غير أن قال: إلا أن يكون مثل القصة التي حكم فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - في الشافعي خيبر ، فتجب فيها القسامة; لما بين اليهود والأنصار من العداوة، ولأنه لم يكن هنالك سواهم; ولأن عبد الله خرج بعد العصر، فوجد قتيلا قبل الليل. ونحوه قال . وقد تأول أحمد هذا على النسائي . مالك
قلت: وحاصل ما قال هؤلاء: إن هذه القضية اجتمعت فيها قرائن غير كون القتيل وجد في محلتهم، وإن المحلة لم تنفرد باللوث، بل مجموع ما أبدوه من القرائن. وما قالوه صحيح; إذ لا معين، ولا مخصص، ولا ما يدل على إلغاء ما أبدوه.
وقد اختلف العلماء في الأمور التي تكون لوثا. ومجموع ما اختلف فيه من ذلك سبعة أمور:
أحدها: المحلة، وقد ذكرناها.
وثانيها: قول القتيل: دمي عند فلان. أو فلان قتلني عمدا. أو ضربني; وجد به أثر، أو لم يوجد. فقال ، مالك : إنه لوث يوجب القسامة. قال [ ص: 7 ] والليث : إنه مما اجتمع عليه في الحديث والقديم، وروي عن مالك . وشرط بعض أصحاب عبد الملك بن مروان وجود الأثر والجرح، وتمسك مالك في ذلك بقصة قتيل بقرة مالك بني إسرائيل ، فإنه لما حيي القتيل قال: فلان قتلني. فاعتمد على ذلك، وبأن المسلم المشرف على الموت لا يتهم بكذب يسفك به دم مسلم عند آخر عهده بالدنيا، فظاهر حاله الصدق. وقد خالفه في ذلك سائر العلماء، ولم يروا شيئا من ذلك لوثا.
وثالثها: شهادة غير البينة القاطعة. ولم يختلف قول ، مالك ، والشافعي : في أن الشاهد الواحد العدل ولفيف الناس لوث; واختلف قول والليث في الواحد غير العدل، وفي المرأة. هل ذلك لوث أم لا؟ وجعل مالك الليث وربيعة ويحيى بن سعيد شهادة النساء، والعبيد، والذميين لوثا. وقال بعض أصحابنا: شهادة النساء والصبيان لوث. وأباه أكثرهم.
ورابعها: أن يشهد شاهدان على الجرح، ثم يحيا المجروح حياة بينة، ثم يموت. فذلك لوث يوجب القسامة عند ، وأصحابه، مالك . واختلف عندنا فيما إذا شهد بالجرح شاهد واحد; هل يوجب ذلك قسامة أم لا؟ على قولين، والأصح: أنها لا تجب إلا بشاهدين. ولم ير والليث ، ولا الشافعي في هذا قسامة، بل القصاص من غير قسامة. أبو حنيفة
وخامسها: وجود المتهم عند المقتول، أو قربه، أو آتيا من جهته وعليه آثار القتل من التلطخ بالدم وشبهه. فهو لوث عند . وقال مالك نحوه. قال: [ ص: 8 ] وذلك: إذا لم يوجد هنالك أحد به أثر، ولا سبع. قال: ولو وجد في بيت، أو دار، أو صحراء قتيل ليس فيها أحد سواهم فيتفرقون عن قتيل. فهذا كله شبهة توجب القسامة. الشافعي
وسادسها: فئتان تقتتلان، فيوجد بينهما قتيل; ففيه روايتان:
إحداهما: أن كان من الفئتين، أو غيرهم. أولياءه يقسمون على من يدعون عليه، أو من يدعي عليه المقتول;
والأخرى: لا قسامة فيه في هذه الوجوه، وفيه إن كان منها، وعلى الطائفتين إن كان من غيرهما، وبالقسامة في هذا قال الدية على الطائفة التي نازعت طائفته; . وقال الشافعي أحمد وإسحاق : عقله على الفئة المنازعة; فإن عينوا رجلا ففيه القسامة.
وسابعها: الميت في مزاحمة الناس. قال : تجب بذلك القسامة، وتكون فيه الدية. وعند الشافعي : هو هدر. وقال مالك إسحاق ، : ديته على بيت المال. وروي مثله عن والثوري ، عمر - رضي الله عنهما - وقال وعلي الحسن ، : ديته على من حضر. والزهري
وقوله: ( ثم أقبل هو وأخوه حويصة ) يعني به: محيصة . وهما ابنا مسعود بن زيد . والمشهور في حويصة ومحيصة تخفيف الياء. وقد رويا بكسر الياء وتشديدها. وعلى الوجهين فهما مصغران، والمقتول: عبد الله بن سهل بن زيد ، وأخوه عبد الرحمن بن سهل ، فالأربعة بنو عم، بعضهم لبعض. وإنما تقدم محيصة بالكلام لكونه كان بخيبر حين قتل عبد الله ، غير أنه كان أصغر سنا من حويصة ; ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ( كبر، كبر ) أي: قدم للكلام قبلك من هو أكبر سنا منك. فتقدم حويصة ، وكأنه كان أكبر منه ومن عبد الرحمن أخي المقتول.
[ ص: 9 ] ففيه من الفقه: أن المشتركين في طلب حق ينبغي لهم أن يقدموا للكلام واحدا منهم، وأحقهم لذلك أسنهم; إذا كانت له أهلية القيام بذلك. وهذا كما قال في "الإمام": فإن كانوا في الفقه سواء فأقدمهم سنا. وقد قدمنا أن كبر السن لم يستحق التقديم إلا من حيث القدم في الإسلام، والسبق إليه، والعلم به، وممارسة أعماله وأحواله، والفقه فيه، ولو كان الشيخ عريا عن ذلك لاستحق التأخير، ولكان المتصف بذلك هو المستحق للتقديم - وإن كان شابا - وقد قدم وفد على عمر بن عبد العزيز له: كبر، كبر. عمر فقال: يا أمير المؤمنين! لو كان الأمر بالسن لكان هنا من هو أولى بالخلافة منك! فقال: تكلم. فتكلم فأبلغ، فأوجز. فتقدم شاب للكلام، فقال
و (قوله - بعد سماع كلام المدعين -: ( إما أن يدوا صاحبكم، وإما أن يؤذنوا بحرب ) هذا الكلام من النبي - صلى الله عليه وسلم - على جهة التأنيس والتسلية لأولياء المقتول، وعلى جهة الإخبار بالحكم على تقدير ثبوت القتل عليهم. لا أن ذلك كان حكما من النبي - صلى الله عليه وسلم - على اليهود في حال غيبتهم، فإنه بعد لم يسمع منهم، ولا حضروا حتى يسألهم؛ ولذلك كتب إليهم بعد أن صدر منه ذلك القول. ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن سمع الدعوى لم يستحضر المدعى عليهم إليه.
وفيه من الفقه: أن مجرد الدعوى لا يوجب إحضار المدعى عليه; لأن في إحضاره منعا له من أشغاله، وتضييعا لما له من غير موجب ثابت. فلو ظهر هنالك [ ص: 10 ] ما يقوي دعوى المدعي من لطخ، أو شبهة، لتعين أن يستحضر ويسمع جوابه عما ادعي عليه. ثم قد يختلف هذا في القرب والبعد، وشدة الضرر، وقلته.
و (قوله: فكتبوا: إنا والله ما قتلناه !) فيه من الفقه: وأن الاكتفاء بالكتب، وبأخبار الآحاد مع إمكان المشافهة، اليمين قبل استدعائها، وتوجهها لا اعتبار بها.
و (قوله للمدعين: [ أتحلفون خمسين يمينا ]) دليل: على أن وهو قول معظم القائلين: بأن القسامة يستوجب بها الدم. وقال القسامة يبدأ فيها المدعون بالأيمان. : الذي أجمعت عليه الأمة في القديم والحديث: أن المدعين يبدؤون في القسامة، وخالف في ذلك الكوفيون، وكثير من البصريين، والمدنيين، مالك . وروي عن والأوزاعي ، الزهري - رضي الله عنه - وقالوا: يبدأ بالمدعى عليهم; متمسكين في ذلك بالأصل الذي دل عليه وعمر بن الخطاب وبأنه قد روي هذا الحديث من طرق ذكرها قوله - صلى الله عليه وسلم - للمدعي: (شاهداك، أو يمينه) ، أبو داود . ذكر فيها: أنه - صلى الله عليه وسلم - طالب المدعين بالبينة. فقالوا: ما لنا بينة، فقال: ( فتحلف لكم يهود خمسين يمينا ). وهذا هو الأصل المقطوع به في باب الدعاوى; الذي نبه الشرع على حكمته بقوله: والنسائي البينة على المدعي، واليمين على من أنكر). وقد أجاب الجمهور عن ذلك: بأن الصحيح المشهور المعروف من حديث (لو أعطي الناس بدعاويهم لاستحل رجال دماء رجال وأموالهم، ولكن حويصة ومحيصة تبدئة المدعين بالأيمان. وهي رواية الأئمة الحفاظ [ ص: 11 ] بالطرق المسندة المستفيضة، وما ذكروه مما رواه أبو داود بالطرق المسندة المستفيضة، وما ذكروه مما رواه والنسائي أبو داود : مراسيل، وغير معروفة عند المحدثين، وليست مما تعارض بها الطرق الصحاح; فيجب ردها بذلك. وأجابوا عن التمسك بالأصل: بأن هذا الحكم أصل بنفسه لحرمة الدماء، ولتعذر إقامة البينة على القتل غالبا. فإن القاصد للقتل إنما يطلب الخلوة، والغيلة، بخلاف سائر الحقوق، وبشهادات الروايات الصحيحة لهذا الأصل الخاص بهذا الحكم الخاص، وبقي ما عداه على ذلك الأصل الآخر. ثم ليس ذلك خروجا عن ذلك الأصل بالكلية. وذلك أن المدعي إنما كان القول قوله لقوة جنبته بشهادة الأصل له بالبراءة مما ادعي عليه، وذلك المعنى موجود هنا، فإنه إنما كان القول قول المدعين لقوة جنبتهم باللوث الذي يشهد لهم بصدقهم. فقد أعملنا ذلك الأصل، ولم نطرحه بالكلية. والنسائي
و (قوله: أتحلفون خمسين يمينا ؟) وفي الأخرى: ( أيقسم خمسون منكم ؟) دليل: على استحقاق هذا العدد من الأيمان، فلا يجزئ فيها أقل من ذلك. فإن كان المستحقون خمسين حلف كل واحد منهم يمينا واحدة. فإن كانوا أقل من ذلك، أو نكل منهم من لا يجوز عفوه ردت الأيمان عليهم بحسب عددهم. لا يحلف فيه الواحد من الرجال ولا النساء، يحلف الأولياء ومن يستعين بهم الأولياء من العصبة خمسين يمينا. هذا مذهب ولا يحلف في العمد أقل من اثنين من الرجال، ، مالك ، والليث ، وربيعة ، والثوري ، والأوزاعي وأحمد وداود ، وأهل الظاهر. واختلف عن فيما إذا زاد الأولياء على الخمسين. هل يحلف كلهم يمينا يمينا؟ أو يقتصر منهم على خمسين؟ وهذا هو الأولى لقوله: ( يحلف خمسون منكم ) و(من) للتبيين. والخطاب لجميع الأولياء. فأفاد [ ص: 12 ] ذلك: أنهم إذا حلف منهم خمسون أجزأ. مالك
وأما عند القائلين بها: فيحلف فيها الواحد من الرجال، والنساء، فمهما كملت خمسون يمينا من واحد أو أكثر استحق الحالف ميراثه، ومن نكل لم يستحق شيئا. فإن جاء من غاب حلف من الأيمان ما كان يجب عليه لو حضر بحسب ميراثه. هذا قول القسامة في الخطأ المشهور عنه. وقد روي عنه: أنه لا يرى في الخطأ قسامة. وقال مالك : لا ينقص من ثلاثة أنفس. وقال الليث : لا يحلف في العمد، ولا في الخطأ إلا أهل الميراث على قدر مواريثهم. ولا يحلف على مال من لا يستحقه. وهو قول الشافعي ، أبي ثور وابن المنذر .
و (قوله: وتستحقون دم صاحبكم )، وفي الرواية الأخرى: ( فيدفع إليكم برمته ) نص في أن القسامة يستحق بها الدم. وهو مذهب معظم الحجازيين، وهو قول ، الزهري ، وربيعة ، والليث ، وأصحابه، ومالك ، والأوزاعي ، وأبي ثور ، وأحمد وإسحاق ، وداود ، وأحد قولي . وروي ذلك عن الشافعي ، ابن الزبير رضي الله عنهم. قال وعمر بن عبد العزيز : قتلنا بالقسامة وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متوافرون; إني لأراهم ألف رجل، فما اختلف منهم في ذلك اثنان. وقال الكوفيون، أبو الزناد وإسحاق ، - في قوله الآخر -: إنما تجب بها الدية. وهو قول والشافعي ، الحسن البصري والحسن بن حي ، والبتي ، ، والنخعي . وروي عن والشعبي ، أبي بكر ، وعمر ، وابن عباس . والحديث المتقدم نص في موضع الخلاف، فلا ينبغي أن يعدل عنه. ومعاوية
و (قوله: على رجل منهم ) وفي اللفظ الآخر: ( وتستحقون دم صاحبكم ) دليل على أن وهو قول القسامة إنما تكون على واحد. ، ومشهور قول [ ص: 13 ] أحمد . وقال مالك : لهم أن يقسموا على جماعة، ويختارون واحدا للقتل، ويسجن الباقون عاما، ويضربون مائة مائة. وقال أشهب : يقتل بها الجماعة. وهو قول المغيرة في القديم. وذهب الشافعي من أصحابه: إلى أنه يقسم على الجماعة، ويقتل منهم واحد. وقد فهم ابن سريج من قوله: ( وتستحقون دم صاحبكم ): أنه لا يحلف إلا الورثة الذين يستحقون المال. وهو فهم عجيب ينبني على أن المستحق بالقتل العمد تخيير الولي بين القصاص وبين الدية. وسيأتي ذلك إن شاء الله. وقد بناه بعضهم على قولته الأخرى: في أن المستحق بالقسامة الدية لا القصاص. وهو خلاف نص الحديث. الشافعي
و (قوله: ما حضرنا، ولا شهدنا ) وفي اللفظ الآخر: [أمر لم نحضره، فكيف نحلف عليه ؟!] دليل: على أن الأيمان في القسامة على القطع. وهو الأصل في الأيمان، إلا أن يتعذر ذلك فيها، كما سيأتي تفصيل ذلك. وسبب ذلك: أن الحالف جازم في دعواه، فلا يحلف إلا على ما تحققه، كالشاهد، غير أنه لا يشترط في تحقيق ذلك الحضور والمشاهدة; إذ قد يحصل له التحقيق من الأخبار، والنظر في قرائن الأحوال.
و (قوله: فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم ) دليل: على أن من توجهت عليه يمين فنكل عنها: أنه لا يقضى عليه بمجرد النكول حتى ترد اليمين على الآخر، ويحلف. وهو قول ، مالك . وروي عن والشافعي ، عمر ، وعثمان ، وجماعة من السلف. وقال وعلي ، والكوفيون، أبو حنيفة : يقضى عليه [ ص: 14 ] دون رد اليمين. وقال وأحمد بن حنبل : يؤخذ باليمين. ومعنى تبرئكم ابن أبي ليلى يهود : أي: يبرؤون إليكم مما طالبتموهم به، فتبرؤون أنتم منهم; إذ ينقطع طلبكم عنهم شرعا.
وفيه دليل على أن الأيمان المردودة لا تكون أقل من خمسين يمينا من خمسين رجلا إذا كان المدعى عليهم خمسين. فإن كانوا أقل من ذلك حلفوا خمسين يمينا، وردت عليهم بحسب عددهم. وهل لهم أن يستعينوا بمن يحلف معهم من أوليائهم أم لا ؟ قولان. فمشهور مذهب : لهم الاستعانة. وعليه فلا يحلف فيها أقل من اثنين. ولا يحلف المدعى عليه معهم إلا أن لا يجد من يحلف معه، فيحلف هو خمسين يمينا. وروى مالك عن مطرف : أنه لا يحلف مع المدعى عليه أحد، ويحلف هم أنفسهم كانوا واحدا أو أكثر خمسين يمينا يبرئون بها أنفسهم. وهو قول مالك . وهو الصحيح; لأن من لم يدع عليه لم يكن له سبب يتوجه عليه به يمين، ثم مقصود هذه الأيمان: البراءة من الدعوى. ومن لم يدع عليه بريء، ولأن أيمانهم على أن وليهم لم يقتل شهادة على نفي، وهي باطل. وأيضا فقد قال الله تعالى: الشافعي ولا تزر وازرة وزر أخرى [الإسراء: 15]
و (قوله: فيدفع برمته ) هو بضم الراء، وهو: الحبل البالي. وأصله: أن رجلا سلم رجلا لآخر بحبل في عنقه ليقتله، فقيل: ذلك لكل من سلم شيئا بكليته، ولم يبق له به تعلق. والرمة - بكسر الراء -: العظم البالي. يقال: رم العظم، وأرم: إذا بلي. والرميم: الشيء البالي المتفتت كالورق، المتهشم، ومنه قوله تعالى: ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم [الذاريات: 42]
و (قول المدعين: كيف نقبل أيمان قوم كفار ) هذا استبعاد لصدقهم وتقريب [ ص: 15 ] لإقدامهم على الكذب، وجرأتهم على الأيمان الفاجرة. وعلى هذا يدل قولهم: ( ليسوا بمسلمين ) أي: ما هم عليه من الكفر والعداوة للمسلمين يجرؤهم على الأيمان الكاذبة، لكنهم مع هذا كله لو رضوا بأيمانهم لحلفوا لهم، ولا خلاف أعلمه في أن الكافر إذا توجهت عليه يمين: أنه يحلفها أو يعد ناكلا.
وبماذا يحلف؟ فالمشهور عن : أنه إنما يحلف بالله; الذي لا إله إلا هو. سواء كان يهوديا، أو نصرانيا، أو غيرهما من الأديان، كما يحلف المسلم. وفيه نظر. وروى مالك عن الواقدي : أن اليهودي يحلف بالله الذي أنزل التوراة على مالك موسى . والنصراني: بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسى . وهذا القول أمشى على الأصول من الأول؛ وذلك أنا إذا أجبرنا النصراني على أن يحلف بالتوحيد مع قطعنا بأنه خلاف معتقده، ودينه; فقد أجبرناه على الخروج عن دينه، مع أنا قد عاهدناه على إبقائه على اعتقاده، ودينه. وأيضا: فلا مانع له من أن يقدم على الحلف بذلك; إذ هو في اعتقاده ليس بصحيح. فالأولى القول الثاني. ويحلف في المواضع التي يعتقد تعظيمها.
و (قوله: فوداه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عنده ) إنما وهذا اللفظ الذي هو: ( من عنده ) ظاهر في: أن فعل ذلك على مقتضى كرم خلقه، وحسن إيالته، وجلبا للمصلحة، ودفعا للمفسدة، وإطفاء للثائرة، [ ص: 16 ] وتأليفا للأغراض المتنافرة عند تعذر الوصول إلى استيفاء الحق لتعذر طرقه. وهذا أصح من رواية من روى: أنها كانت من إبل الصدقة; إذ قد قيل: إنها غلط من بعض الرواة; إذ الإبل التي دفع كانت من ماله. ليس هذا من مصارف الزكاة.
قلت: والأولى ألا يغلط الراوي العدل الجازم بالرواية ما أمكن. ويحتمل ذلك أوجها من التأويلات:
أحدها: أنه تسلف ذلك من مال الصدقة; حتى يؤديها من الفيء.
وثانيها: أن يكون أولياء القتيل مستحقين للصدقة، فأعطاها إياهم في صورة الدية، تسكينا لنفرتهم وجبرا لهم; مع أنهم مستحقون لها.
وثالثها: أنه أعطاهم تلك من سهم المؤلفة قلوبهم؛ استئلافا لهم، واستجلابا لليهود .
ورابعها: قول من قال: إنه يجوز صرف الصدقة في مثل هذا; لأنه من المصالح العامة. وهذا أبعد الوجوه; لقوله تعالى: إنما الصدقات للفقراء والمساكين الآية [التوبة: 60] .
تفسير غريبه: الفريضة: واحدة الفرائض، وهي: النوق المأخوذة في الزكاة والدية. وقد فسرها في الرواية التي قال فيها: ( فلقد ركضتني منها ناقة حمراء ) وأصل الفرض: التقدير، كما تقدم. ولا معنى لقول من قال: إنها المسنة [ ص: 17 ] من الإبل.
والشربة - بفتح الشين والراء - هي: حوض في أصل النخلة تشرب منه النخلة. وجمعه: شرب - بفتح الراء - وهي التي عبر عنها في الرواية الأخرى بـ (الفقير). وقيل: الفقير: هو الحفر العميق الذي يحفر للفسيلة. والجهد - بفتح الجيم -: الشدة والمشقة. والجهد - بضمها -: غاية الوسع والطاقة. وقد تقدم القول في (الرمة). والعقل: الدية. وسميت بذلك: لأن الإبل كانت تعقل بفناء المستحقين للدية.
وفيه من الفقه: أن أهل الذمة يحكم عليهم بحكم الإسلام، لا سيما إذا كان الحكم بين ذمي ومسلم، فإنه لا يختلف في ذلك. وكذلك لو كان المقتول من أهل الذمة فادعي به على مسلم; فإن ولاة الدم يحلفون خمسين يمينا، ويستحقون به دية ذمي. هذا قول . مالك
وقال بعض أصحابه: يحلف المسلم المدعى عليه خمسين يمينا، ويبرأ، ولا تحمل العاقلة ديته. فلو قام للذمي شاهد واحد بالقتل; فقال : يحلف ولاته يمينا واحدة ويستحقون الدية من ماله في العمد، ومن عاقلته في الخطأ. وقال غيره: يحلف المدعى عليه خمسين يمينا ويجلد مائة، ويحبس عاما. مالك
وفيه ما يدل على جواز سماع حجة أحد الخصمين في غيبة الآخر. وأن أهل الذمة إن امتنعوا من فعل ما وجب عليهم لنقض عهدهم.
والحديث كله حجة واضحة للجمهور من السلف والخلف على من أنكر وهم: العمل بالقسامة; ، سالم بن عبد الله وأبو قلابة ، ، ومسلم بن خالد [ ص: 18 ] وقتادة ، وبعض المكيين. فنفوا الحكم بها شرعا في العمد والخطأ. وقد روي ذلك عن وابن علية ، عمر بن عبد العزيز . وقد روي عنهما العمل بها. وقد روي نفي العمل بها عن والحكم بن عتيبة . سليمان بن يسار