الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        النوع الثاني : التطيب فتجب الفدية باستعمال الطيب قصدا . فأما الطيب ، فالمعتبر فيه أن يكون معظم الغرض منه التطيب ، واتخاذ الطيب منه ، أو يظهر [ ص: 129 ] فيه هذا الغرض . فالمسك ، والكافور ، والعود ، والعنبر ، والصندل طيب . وأما ما له رائحة طيبة من نبات الأرض ، فأنواع .

                                                                                                                                                                        منها : ما يطلب للتطيب واتخاذ الطيب منه ، كالورد ، والياسمين ، والزعفران ، والخيري ، والورس ، فكله طيب . وحكي وجه شاذ في الورد والياسمين والخيري . ومنها : ما يطلب للأكل ، أو للتداوي غالبا ، كالقرنفل ، والدارصيني ، والسنبل ، وسائر الأبازير الطيبة ، والتفاح ، والسفرجل ، والبطيخ ، والأترج ، والنارنج ، ولا فدية في شيء منها . ومنها : ما يتطيب به ولا يؤخذ منه الطيب ، كالنرجس ، والريحان الفارسي ، وهو الضيمران ، والمرزنجوش ونحوها ، ففيها قولان . القديم لا فدية . والجديد : وجوبها .

                                                                                                                                                                        وأما البنفسج ، فالمذهب : أنه طيب . وقيل : لا . وقيل : قولان . والنيلوفر ، كالنرجس . وقيل : طيب قطعا .

                                                                                                                                                                        ومنها : ما ينبت بنفسه ، كالشيح ، والقيصوم ، والشقائق ، وفي معناها نور الأشجار ، كالتفاح والكمثرى وغيرهما ، وكذا العصفر ، والحناء ولا فدية في شيء من هذا .

                                                                                                                                                                        وحكى بعض الأصحاب وجها : أنه تعتبر عادة كل ناحية فيما يتخذ طيبا ، وهذا غلط نبهنا عليه .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        الأدهان ضربان . دهن ليس بطيب كالزيت والشيرج ، وسيأتي في النوع الثالث إن شاء الله تعالى . ودهن هو طيب ، فمنه دهن الورد ، والمذهب : وجوب الفدية فيه ، وبه قطع الجمهور . وقيل : وجهان . ومنه دهن البنفسج ، فإن لم نوجب الفدية في نفس البنفسج ، فدهنه أولى ، وإلا فكدهن الورد .

                                                                                                                                                                        ثم اتفقوا على [ ص: 130 ] أن ما طرح فيه الورد والبنفسج ، فهو دهنهما . ولو طرحا على السمسم فأخذ رائحة ، ثم استخرج منه الدهن ، قال الجمهور : لا يتعلق به فدية ، وخالفهم الشيخ أبو محمد . ومنه البان ودهنه ، أطلق الجمهور : أن كل واحد منهما طيب . ونقل الإمام عن نص الشافعي - رحمه الله - : أنهما ليس بطيب ، وتابعه الغزالي ، ويشبه أن لا يكون خلافا محققا ، بل هما محمولان على توسط حكاه صاحبا " المهذب " و " التهذيب " ، وهو أن دهن البان المنشوش ، وهو المغلي في الطيب طيب ، وغير المنشوش ليس بطيب .

                                                                                                                                                                        قلت : وفي كون دهن الأترج طيبا ، وجهان حكاهما الماوردي ، والروياني . وقطع الدارمي : بأنه طيب . - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        ولو أكل طعاما فيه زعفران ، أو طيب آخر ، أو استعمل مخلوطا بالطيب لا بجهة الأكل نظر إن استهلك الطيب فلم يبق له ريح ولا طعم ولا لون ، فلا فدية . وإن ظهرت هذه الصفات ، أو بقيت الرائحة فقط وجبت الفدية . وإن بقي اللون وحده ، فقولان . أظهرهما : لا فدية . وقيل : لا فدية قطعا . وإن بقي الطعم فقط ، فكالرائحة على الأصح . وقيل : كاللون . ولو أكل الخلنجين المربى بالورد نظر في استهلاك الورد فيه وعدمه ، وخرج على هذا التفصيل .

                                                                                                                                                                        قلت : قال صاحب " الحاوي " والروياني : لو أكل العود فلا فدية عليه ؛ لأنه لا يكون متطيبا به إلا بأن يتبخر به ، بخلاف المسك . - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        [ ص: 131 ] فرع

                                                                                                                                                                        لو خفيت رائحة الطيب ، أو الثوب المطيب لمرور الزمان ، أو لغبار وغيره ، فإن كان بحيث لو أصابه الماء فاحت رائحته ، حرم استعماله . وإن بقي اللون ، لم يحرم على الأصح . ولو انغمر شيء من الطيب في غيره كماء ورد انمحق في ماء كثير ، لم تجب الفدية باستعماله على الأصح . فلو انغمرت الرائحة وبقي اللون أو الطعم ، ففيه الخلاف السابق .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        في بيان الاستعمال

                                                                                                                                                                        هو أن يلصق الطيب ببدنه ، أو ملبوسه على الوجه المعتاد في ذلك الطيب . فلو طيب جزءا من بدنه بغالية ، أو مسك مسحوق ، أو ماء ورد لزمه الفدية سواء الإلصاق بظاهر البدن أو باطنه ، بأن أكله أو احتقن به ، أو استعط . وقيل : لا فدية في الحقنة والسعوط ، ولو عبق به الريح دون العين بأن جلس في دكان عطار ، أو عند الكعبة وهي تبخر ، أو في بيت تبخر ساكنوه فلا فدية . ثم إن لم يقصد الموضع لاشتمام الرائحة ، لم يكره ، وإلا كره على الأظهر . وقال القاضي حسين : يكره قطعا . والقولان في وجوب الفدية ، والمذهب : الأول ولو احتوى على مجمرة فتبخر بالعود بدنه ، أو ثيابه ، لزمه الفدية . فلو مس طيبا فلم يعلق به شيء من عينه ، لكن عبقت به الرائحة [ ص: 132 ] ، فلا فدية على الأظهر . ولو شد المسك ، أو العنبر ، أو الكافور في طرف ثوبه ، أو وضعته المرأة في جيبها ، أو لبست الحلي المحشو بشيء منها ، وجبت الفدية ؛ لأنه استعماله .

                                                                                                                                                                        قلت : ولو شد العود فلا فدية ؛ لأنه لا يعد تطيبا بخلاف شد المسك . - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        ولو شم الورد ، فقد تطيب . ولو شم ماء الورد ، فلا بل استعماله أن يصبه على بدنه أو ثوبه .

                                                                                                                                                                        ولو حمل مسكا أو طيبا غيره ، في كيس ، أو خرقة مشدودة ، أو قارورة مصممة الرأس ، أو حمل الورد في ظرف ، فلا فدية ، نص عليه في " الأم " . وفي وجه شاذ : أنه إن كان يشم قصدا لزمه الفدية . ولو حمل مسكا في فأرة غير مشقوقة ، فلا فدية على الأصح . ولو كانت الفأرة مشقوقة ، أو القارورة مفتوحة الرأس ، قال الأصحاب : وجبت الفدية ، وفيه نظر ؛ لأنه لا يعد تطيبا . ولو جلس على فراش مطيب ، أو أرض مطيبة ، أو نام عليها مفضيا ببدنه أو ملبوسه إليها ، لزمه الفدية . فلو فرش فوقه ثوبا ، ثم جلس عليه ، أو نام لم تجب الفدية . لكن إن كان الثوب رقيقا كره . ولو داس بنعله طيبا لزمه الفدية .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        في بيان القصد

                                                                                                                                                                        فلو تطيب ناسيا لإحرامه ، أو جاهلا بتحريم الطيب فلا فدية . وقال المزني : تجب ولو علم تحريم الاستعمال ، وجهل وجوب الفدية .

                                                                                                                                                                        [ ص: 133 ] ولو علم تحريم الطيب ، وجهل كون الممسوس طيبا ، فلا فدية على المذهب وبه قطع الجمهور . وقيل : وجهان . ولومس طيبا رطبا وهو يظنه يابسا لا يعلق به شيء منه ، ففي وجوب الفدية قولان . رجح الإمام وغيره : الوجوب . ورجحت طائفة عدم الوجوب ، وذكر صاحب " التقريب " : أنه القول الجديد . ومتى لصق الطيب ببدنه أو ثوبه على وجه لا يوجب الفدية بأن كان ناسيا ، أو ألقته الريح عليه لزمه أن يبادر إلى غسله ، أو ينحيه أو يعالجه بما يقطع ريحه .

                                                                                                                                                                        والأولى أن يأمر غيره بإزالته ، فإن باشره بنفسه لم يضر ، فإن أخر إزالته مع الإمكان فعليه الفدية فإن كان زمنا لا يقدر على الإزالة فلا فدية كمن أكره على التطيب ، قاله في " التهذيب " .

                                                                                                                                                                        قلت : ولو لصق به طيب يوجب الفدية لزمه أيضا المبادرة إلى إزالته . - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية