الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين )

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين )

                                                                                                                                                                                                                                            اعلم أن هذا النوع أيضا من أنواع قبائح اليهود ومنكرات أقوالهم وأفعالهم وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : أن قوله تعالى : ( قل من كان عدوا لجبريل ) لا بد له من سبب وأمر قد ظهر من اليهود حتى يأمره بأن يخاطبهم بذلك لأنه يجري مجرى المحاجة ، فإذا لم يثبت منهم في ذلك أمر لا يجوز أن يأمره الله تعالى بذلك والمفسرون ذكروا أمورا ، أحدها : أنه عليه الصلاة والسلام لما قدم المدينة أتاه عبد الله بن صوريا فقال : يا محمد كيف نومك ، فقد أخبرنا عن نوم النبي الذي يجيء في آخر الزمان ؟ فقال عليه السلام : " تنام عيناي ولا ينام قلبي " قال : صدقت يا محمد ، فأخبرني عن الولد أمن الرجل يكون أم من المرأة ؟ فقال : أما العظام والعصب والعروق فمن الرجل ، وأما اللحم والدم والظفر والشعر ، فمن المرأة فقال صدقت . فما بال الرجل يشبه أعمامه دون أخواله أو يشبه أخواله دون أعمامه ؟ فقال : أيهما غلب ماؤه ماء صاحبه كان الشبه له ، قال : صدقت فقال : أخبرني أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه وفي التوراة أن النبي الأمي يخبر عنه ؟ فقال عليه السلام : " أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن إسرائيل مرض مرضا شديدا فطال سقمه فنذر لله نذرا لئن عافاه الله من سقمه ليحرمن على نفسه أحب الطعام والشراب ، وهو لحمان الإبل وألبانها ؟ فقالوا : نعم . فقال له : بقيت خصلة واحدة إن قلتها آمنت بك ، أي ملك يأتيك بما تقول عن الله ؟ قال جبريل : قال إن ذلك عدونا ينزل بالقتال والشدة ، ورسولنا ميكائيل يأتي بالبشر والرخاء فلو كان هو الذي يأتيك آمنا بك ، فقال عمر : وما مبدأ هذه العداوة ؟ فقال ابن صوريا : مبدأ هذه العداوة أن الله تعالى أنزل على نبينا أن بيت المقدس سيخرب في زمان رجل يقال له : بختنصر ووصفه لنا فطلبناه فلما وجدناه بعثنا لقتله رجالا فدفع عنه جبريل وقال : إن سلطكم الله على قتله فهذا ليس هو ذاك الذي أخبر الله عنه أنه سيخرب بيت المقدس ، فلا فائدة في قتله ، ثم إنه كبر وقوي وملك وغزانا وخرب بيت المقدس وقتلنا ، فلذلك نتخذه عدوا ، وأما ميكائيل [ ص: 178 ] فإنه عدو جبريل فقال عمر ؛ فإني أشهد أن من كان عدوا لجبريل فهو عدو لميكائيل وهما عدوان لمن عاداهما فأنكر ذلك على عمر فأنزل الله تعالى هاتين الآيتين .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : روي أنه كان لعمر أرض بأعلى المدينة وكان ممره على مدراس اليهود وكان يجلس إليهم ويسمع كلامهم فقالوا : يا عمر قد أحببناك وإنا لنطمع فيك فقال : والله ما أجيئكم لحبكم ولا أسألكم لأني شاك في ديني وإنما أدخل عليكم لأزداد بصيرة في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأرى آثاره في كتابكم ، ثم سألهم عن جبريل فقالوا : ذاك عدونا يطلع محمدا على أسرارنا وهو صاحب كل خسف وعذاب ، وإن ميكائيل يجيء بالخصب والسلم فقال لهم : وما منزلتهما من الله ؟ قالوا : أقرب منزلة ، جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره وميكائيل عدوا لجبريل فقال عمر : لئن كان كما تقولون فما هما بعدوين ولأنتم أكفر من الحمير ، ومن كان عدو لأحدهما كان عدوا للآخر ومن كان عدوا لهما كان عدوا لله ، ثم رجع عمر فوجد جبريل عليه السلام قد سبقه بالوحي فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لقد وافقك ربك يا عمر " قال عمر : لقد رأيتني في ديني بعد ذلك أصلب من الحجر .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : قال مقاتل : زعمت اليهود أن جبريل عليه السلام عدونا ، أمر أن يجعل النبوة فينا فجعلها في غيرنا فأنزل الله هذه الآيات .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن الأقرب أن يكون سبب عداوتهم له أنه كان ينزل القرآن على محمد عليه السلام لأن قوله : ( من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله ) مشعر بأن هذا التنزيل لا ينبغي أن يكون سببا للعداوة لأنه إنما فعل ذلك بأمر الله فلا ينبغي أن يكون سببا للعداوة وتقرير هذا من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أولها : أن الذي نزله جبريل من القرآن بشارة المطيعين بالثواب وإنذار العصاة بالعقاب والأمر بالمحاربة والمقاتلة ، ولما لم يكن ذلك باختياره بل بأمر الله الذي يعترفون أنه لا محيص عن أمره ولا سبيل إلى مخالفته فعداوة من هذا سبيله توجب عداوة الله ، وعداوة الله كفر ، فيلزم أن عداوة من هذا سبيله كفر .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أن الله تعالى لو أمر ميكائيل بإنزال مثل هذا الكتاب فإما أن يقال : إنه كان يتمرد أو يأبى عن قبول أمر الله وذلك غير لائق بالملائكة المعصومين أو كان يقبله ويأتي به على وفق أمر الله فحينئذ يتوجه على ميكائيل ما ذكروه على جبريل عليهما السلام فما الوجه في تخصيص جبريل بالعداوة ؟ .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أن إنزال القرآن على محمد كما شق على اليهود فإنزال التوراة على موسى شق على قوم آخرين ، فإن اقتضت نفرة بعض الناس لإنزال القرآن قبحه فلتقتض نفرة أولئك المتقدمين إنزال التوراة على موسى عليه السلام قبحه ومعلوم أن كل ذلك باطل فثبت بهذه الوجوه فساد ما قالوه .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : من الناس من استبعد أن يقول قوم من اليهود : إن جبريل عدوهم قالوا : لأنا نرى اليهود في زماننا هذا مطبقين على إنكار ذلك مصرين على أن أحدا من سلفهم لم يقل بذلك ، واعلم أن هذا باطل لأن حكاية الله أصدق ، ولأن جهلهم كان شديدا وهم الذين قالوا ( اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ) [ الأعراف : 138 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : قرأ ابن كثير : " جبريل " بفتح الجيم وكسر الراء من غير همز ، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم بفتح الجيم والراء مهموزا والباقون بكسر الجيم والراء غير مهموز بوزن قنديل وفيه سبع لغات ثلاث منها ذكرناها ، وجبرائل على وزن جبراعل وجبرائيل على وزن جبراعيل وجبرايل على وزن جبراعل وجبرين بالنون ومنع الصرف للتعريف والعجمة .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 179 ] المسألة الرابعة : قال بعضهم : جبريل معناه عبد الله ، ف " جبر " عبد و " إيل " الله ، وميكائيل عبد الله وهو قول ابن عباس وجماعة من أهل العلم ، قال : أبو علي السوسي : هذا لا يصح لوجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : أنه لا يعرف من أسماء الله " إيل " .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أنه لو كان كذلك لكان آخر الاسم مجرورا .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية