الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

قال ابن إسحاق : وأصبح الناس ولا ماء معهم ، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل الله سبحانه سحابة فأمطرت حتى ارتوى الناس واحتملوا حاجتهم من الماء

[ ص: 467 ] ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سار حتى إذا كان ببعض الطريق ضلت ناقته ، فقال زيد بن اللصيت - وكان منافقا - : أليس يزعم أنه نبي ويخبركم عن خبر السماء وهو لا يدري أين ناقته ؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن رجلا يقول -وذكر مقالته - وإني والله لا أعلم إلا ما علمني الله ، وقد دلني الله عليها ، وهي في الوادي في شعب كذا وكذا ، وقد حبستها شجرة بزمامها ، فانطلقوا حتى تأتوني بها ، فذهبوا فأتوه بها )

وفي طريقه تلك (خرص حديقة المرأة بعشرة أوسق)

ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجعل يتخلف عنه الرجل فيقولون : تخلف فلان ، فيقول : ( دعوه فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم ، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه )

وتلوم على أبي ذر بعيره ، فلما أبطأ عليه أخذ متاعه على ظهره ، ثم خرج يتبع أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ماشيا ، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض منازله ، فنظر ناظر من المسلمين فقال : يا رسول الله ، إن هذا الرجل يمشي على الطريق وحده ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كن أبا ذر ، فلما تأمله القوم قالوا : يا رسول الله والله هو أبو ذر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : رحم الله أبا ذر ، يمشي وحده ويموت وحده ويبعث وحده )

قال ابن إسحاق : فحدثني بريدة بن سفيان الأسلمي ، عن محمد بن كعب [ ص: 468 ] القرظي ، عن عبد الله بن مسعود قال : لما نفى عثمان أبا ذر إلى الربذة وأصابه بها قدره ، لم يكن معه أحد إلا امرأته وغلامه ، فأوصاهما : أن غسلاني وكفناني ، ثم ضعاني على قارعة الطريق ، فأول ركب يمر بكم فقولوا : هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعينونا على دفنه ، فلما مات فعلا ذلك به ، ثم وضعاه على قارعة الطريق ، وأقبل عبد الله بن مسعود في رهط معه من أهل العراق عمارا ، فلم يرعهم إلا بالجنازة على ظهر الطريق قد كادت الإبل تطؤها ، وقام إليهم الغلام فقال : هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعينونا على دفنه ، قال : فاستهل عبد الله يبكي ويقول : صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ( تمشي وحدك وتموت وحدك وتبعث وحدك ، ثم نزل هو وأصحابه فواروه ) ، ثم حدثهم عبد الله بن مسعود حديثه وما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره إلى تبوك

قلت : وفي هذه القصة نظر ، فقد ذكر أبو حاتم بن حبان في " صحيحه " وغيره في قصة وفاته ، عن مجاهد ، عن إبراهيم بن الأشتر ، عن أبيه ( عن أم ذر قالت : لما حضرت أبا ذر الوفاة بكيت فقال : ما يبكيك ؟ فقلت : ما لي لا أبكي وأنت تموت بفلاة من الأرض ، وليس عندي ثوب يسعك كفنا ، ولا يدان لي في تغييبك ، قال : أبشري ولا تبكي ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لنفر أنا فيهم : ليموتن رجل منكم بفلاة من الأرض ، يشهده عصابة من المسلمين ، وليس أحد من أولئك النفر إلا وقد مات في قرية وجماعة ، فأنا ذلك الرجل ، فوالله ما كذبت ولا كذبت فأبصري الطريق ، فقلت : أنى وقد ذهب الحاج وتقطعت الطرق ، فقال اذهبي فتبصري ، قالت : فكنت أسند إلى الكثيب أتبصر ثم أرجع فأمرضه ، فبينا أنا وهو كذلك إذ أنا برجال على رحالهم كأنهم الرخم تخب بهم رواحلهم ، قالت : فأشرت إليهم فأسرعوا إلي حتى وقفوا علي فقالوا : يا أمة الله ما لك ؟ قلت : امرؤ من المسلمين يموت تكفنونه ، قالوا : ومن هو ؟ قلت : أبو ذر ، قالوا : صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قلت : نعم ، ففدوه بآبائهم وأمهاتهم [ ص: 469 ] وأسرعوا إليه حتى دخلوا عليه ، فقال لهم : أبشروا ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لنفر أنا فيهم : ليموتن رجل منكم بفلاة من الأرض يشهده عصابة من المؤمنين ، وليس من أولئك النفر رجل إلا وقد هلك في جماعة ، والله ما كذبت ولا كذبت ، إنه لو كان عندي ثوب يسعني كفنا لي أو لامرأتي لم أكفن إلا في ثوب هو لي أو لها ، فإني أنشدكم الله أن لا يكفنني رجل منكم كان أميرا أو عريفا أو بريدا أو نقيبا ، وليس من أولئك النفر أحد إلا وقد قارف بعض ما قال ، إلا فتى من الأنصار قال : أنا يا عم أكفنك في ردائي هذا ، وفي ثوبين من عيبتي من غزل أمي ، قال : أنت فكفني ، فكفنه الأنصاري ، وقاموا عليه ودفنوه في نفر كلهم يمان )

رجعنا إلى قصة تبوك ، وقد كان رهط من المنافقين ، منهم وديعة بن ثابت أخو بني عمرو بن عوف ، ومنهم رجل من أشجع حليف لبني سلمة يقال له : مخشي بن حمير ، قال بعضهم لبعض : أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم لبعض ؟! والله لكأنا بكم غدا مقرنين في الحبال - إرجافا وترهيبا للمؤمنين - فقال مخشي بن حمير : والله لوددت أني أقاضى على أن يضرب كل منا مائة جلدة ، وإنا ننفلت أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمار بن ياسر : ( أدرك القوم فإنهم قد احترقوا فسلهم عما قالوا ، فإن أنكروا فقل : بل قلتم كذا وكذا ، فانطلق إليهم عمار فقال لهم ذلك ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتذرون إليه ، فقال وديعة بن ثابت : كنا نخوض ونلعب ، فأنزل الله فيهم ( ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب ) [ التوبة : 65 ] فقال مخشي بن حمير : يا رسول الله ، قعد بي اسمي واسم أبي ، فكان الذي عفي عنه في هذه الآية ، وتسمى عبد الرحمن ، وسأل الله أن يقتل شهيدا لا يعلم بمكانه ، فقتل يوم اليمامة فلم يوجد له أثر ) .

[ ص: 470 ] وذكر ابن عائذ في " مغازيه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل تبوك في زمان قل ماؤها فيه ، فاغترف رسول الله صلى الله عليه وسلم غرفة بيده من ماء فمضمض بها فاه ثم بصقه فيها ، ففارت عينها حتى امتلأت ، فهي كذلك حتى الساعة

قلت : في " صحيح مسلم " أنه قال قبل وصوله إليها : ( إنكم ستأتون غدا إن شاء الله تعالى عين تبوك ، وإنكم لن تأتوها حتى يضحي النهار ، فمن جاءها فلا يمسن من مائها شيئا حتى آتي ، قال : فجئناها وقد سبق إليها رجلان ، والعين مثل الشراك تبض بشيء من ماء ، فسألهما رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل مسستما من مائها شيئا ؟ قالا : نعم ، فسبهما النبي صلى الله عليه وسلم وقال لهما ما شاء الله أن يقول ، ثم غرفوا من العين قليلا قليلا حتى اجتمع في شيء ، وغسل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه وجهه ويديه ثم أعاده فيها ، فجرت العين بماء منهمر حتى استقى الناس ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يوشك يا معاذ إن طالت بك حياة أن ترى ما هاهنا قد ملئ جنانا )

التالي السابق


الخدمات العلمية