الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
الجمع بين أحاديث "ترك التزين" و "التزين"

ويرتبط بهذا الموضوع ما ورد في "ترك التزين" وفي "التزين" مما يشعر بالاختلاف، ولكن يزول بجمع الأحاديث وتأملها وتوجيه المعاني فيها.

ففي تيسير الوصول [1] نجد عنوانين في كتاب اللباس: أحدهما "ترك الزينة" والآخر يليه "التزين".

ووضع العنوان "ترك الزينة" يتعارض مع الآية الكريمة ( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده ) (الأعراف: 32) فكيف لا يكون متعارضا مع أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في الزينة.

إلا أن المتأمل في أحاديث ترك الزينة يرى أن الترك إنما يعود إلى أسباب أخرجت الزينة وصاحبها من منزلة الحلال إلى الحرام.

فمثلا نجد رواية معاذ بن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من ترك اللباس متواضعا، وهو يقدر عليه، دعاه الله يوم القيامة على رءوس الخلائق حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء يلبسها ) .

فهذا الحديث أخرجه الترمذي وقال حسن.

إلا أن في إسناده عبد الرحيم بن ميمون ، وقد ضعفه ابن معين ، وفيه [ ص: 67 ] أيضا سهل بن معاذ ، وضعفه كذلك ابن معين . ولكن مع افتراض حسنه، فإن المعنى فيه: أن من كان لديه دواعي الكبر في الملبس وتغلب على نفسه وهواها، وترك اللباس إخضاعا لنفسه وكسرا لمظاهر الكبر فيها، فإن جزاء هـذه المجاهدة أن يدعى من قبل الله سبحانه على رءوس الخلائق، وفي هـذا دلالة على أنه تغلب على شهوة الكبر على الخلائق ورغبة الظهور عليهم في الدنيا، فأبدله الله عزا وكرامة أمامهم في الآخرة.

وإذا كان قد ترك ثوب شهرة وخيلاء تواضعا لله، فإن الله سبحانه يخيره من أي الحلل شاء.

ويتضح هـذا المعنى، ويذكر بالتصريح في الروايتين الباقيتين تحت هـذا العنوان فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من لبس ثوب شهرة ألبسه الله ثوب مذلة ) .

وفي رواية: ( ألبسه الله إياه يوم القيامة، ثم ألهب فيه النار ) .

أخرج الرواية الأولى أبو داود ، والثانية رزين ، وهي -أيضا- في أبي داود.

وثوب الشهرة: هـو الذي إذا لبسه الإنسان افتضح به واشتهر بين الناس، والمراد به ما لا يجوز للرجال لبسه شرعا ولا عرفا [2] .

فترك الزينة - إذا - مقيد بوجود المخالفة الشرعية فيها، وإلا فإن [ ص: 68 ] التزين هـو الأصل، وقد أمرنا به في القرآن الكريم في أطهر الأماكن: ( خذوا زينتكم عند كل مسجد ) (الأعراف:31) .

وجاء التحريض عليه في أحاديث النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومنها: عن أبي الأحوص عن أبيه قال: ( أتيت النبي صلى الله عليه وسلم ، وعلي ثوب دون فقال: ألك مال؟ قلت: نعم. قال: من أي المال؟ قلت: من كل المال قد أعطاني الله تعالى. قال: فإذا آتاك الله تعالى مالا فلير أثر نعمة الله عليك وكرامته ) [3] .

فعدم التزين من الرجل مع وجود المقدرة المالية عنده كان سبب هـذا التوجيه الذي يأخذ أمرا عاما في نعم الله كلها، وأن الله سبحانه يحب أن يرى أثر نعمته على عبده. وهذا يرد على الذين يكتمون نعمة الله خشية الحسد، فالمؤمن يرى كالشامة وإن خشي شيئا فليستعذ بالله من شره.

وعن محمد بن يحيى بن حبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما على أحدكم إن وجد سعة أن يتخذ ثوبين ليوم الجمعة غير ثوبي مهنته ) [4] .

وهذا التخصيص ليكون المؤمن في أحسن زينة، وهو يلتقي بإخوانه في يوم الجمعة، فما يلبسه في عمله قد يصيبه من أثر العمل ما ينقص من جماله ونظافته. [ ص: 69 ]

وعن جابر رضي الله عنه قال: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صاحب لنا يرعى ظهرا لنا وعليه بردان قد أخلقا. فقال: أما له غير هـذين؟ قلت: بلى له ثوبان في العيبة كسوته إياهما، فقال: ادعه، فليلبسهما، فلبسهما. فلما ولى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما له، ضرب الله عنقه. أليس هـذا خيرا؟ فسمعه الرجل، فقال: في سبيل الله يا رسول الله. فقال: في سبيل الله. فقتل الرجل في سبيل الله [5] .

فالرسول الكريم لم يكتف في هـذا الحديث بالتوجيه فحسب، وإنما دعا إلى التنفيذ، وأن يلبس الثوبين، ولبسهما، وقارن الرسول الكريم بين الحالتين مستحسنا التزين.

ويختم هـذا العنوان ببيان المنهج الوسط الذي يتزين فيه المرء بلا إسراف، وبلا تقتير.

فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هـاتين اللبستين: المرتفعة والدون [6] .

ومن هـذا يتضح لنا أن أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيها اختلاف، وإنما يحتاج الأمر إلى جمعها في الموضوع الواحد حتى نحسن فهمها وتوجيهها، دون أن نضرب بعض الأحاديث ببعض.

وعلى ذلك فإن الإنسان في جملة النصوص يقبل على رزق الله، وهو [ ص: 70 ] واثق فيما عند الله، يطلبه بما أحل الله، فإذا وصله لم يفتن به، بل تعامل فيه بمنطق إيمانه، لا يفرح بما أوتي، ولا يحزن على ما فات، ولا بأس أن يصل في الجلال إلى ما شاء الله، وإن ضيق عليه في الرزق فهذا قضاء الله، وعليه أن يصبر، وأن يسعى سعيا حميدا للخروج من الفقر، كما أن أثر النعمة يرى عليه.

عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ليست الزهادة في الدنيا بتحريم الحلال، ولا إضاعة المال، ولكن الزهادة أن تكون بما في يد الله تعالى أوثق منك بما في يدك، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أصبت بها أرغب منك فيها لو أنها أبقيت لك ) [7] .

وهكذا تصحب وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم المؤمن في أحواله كلها ليكون سعيدا في غناه، وفي فقره، لا يطغيه غناه، ولا يجزع في فقره، بل يتقلب في حياته بين الشكر والصبر والرضى، يجد حلاوة القليل، كما يعم غيره بسرور غناه.

وتتابع مثل هـذه التوجيهات في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم لترسخ هـذا المعنى:

فعن عبيد الله بن محصن الخطمي رضي الله عنه قال: ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أصبح منكم آمنا في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها ) [8] . [ ص: 71 ]

فالأمن النفسي مع المعافاة في البدن، ولو كان يحوز قوت اليوم فحسب يحقق للمؤمن الشعور بأنه يملك الدنيا بأسرها.

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: ( سأل ناس من الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم ما سألوه، ثم سألوه، فأعطاهم ما سألوه، ثم سألوه، فأعطاهم ما سألوه، حتى إذا نفد ما عنده. قال: ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم. ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله. ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء هـو خير له أوسع من الصبر ) [9] .

فتعليق النبي صلى الله عليه وسلم على موقف هـؤلاء الناس مع عطائه لهم ثلاث مرات حتى نفد ما عنده يوجه نحو القناعة والرضى، وأن الذي يطلب ذلك من الله يحققه له.

وقد مر بنا كيف سمي المال بالخير، وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم بالخير كذلك: ( ما يكون عندي من خير ) أي من مال.

وفي تحقيق هـذا الرضا يروى أبو هـريرة رضي الله عنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق فلينظر إلى من هـو أسفل منه، فذلك أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم ) أخرجه الشيخان والترمذي . وزاد رزين في رواية: قال عون بن عبد الله بن عتبة رحمه الله: كنت أصحب الأغنياء، فما كان أحد أكثر [ ص: 72 ] هـما مني. كنت أرى دابة خيرا من دابتي، وثوبا خيرا من ثوبي. فلما سمعت هـذا الحديث صحبت الفقراء فاسترحت [10] .

وقد مر بنا كيف حقق الرسول الكريم في حياته المباركة ما يجعل منها مواساة للفقراء ورضا بالقضاء، وإشعارا للأغنياء باحترام الفقراء وعدم الكبر عليهم، كما ينبه إلى عدم التعلق بزخارف الحياة، والتفكير في المصير تفكيرا يجمع بين عمارة الحياة الدنيا والفوز بالآخرة.

فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ( دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد نام على رمال حصير، وقد أثر في جنبه، فقلت: يا رسول الله ! لو اتخذنا لك وطاء نجعله بينك وبين الحصير يقيك منه؟ فقال: ما لي وللدنيا، ما أنا والدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها ) [11] .

وعن سهل بن سعد رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء ) [12] .

وعن علي رضي الله عنه قال: " ارتحلت الدنيا مدبرة، وارتحلت الآخرة مقبلة، وإن لكل واحدة منهما بنين فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا. فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدا حساب ولا عمل " [13] . [ ص: 73 ]

فالبنوة للآخرة تعني الجمع بين الدنيا والآخرة؛ أي بين العمل الصالح الذي تعمر به الحياة، والحساب الذي يجازى فيه على الصالحات في الآخرة.

التالي السابق


الخدمات العلمية