الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

النص الشرعي وتأويله (الشاطبي أنموذجا)

الدكتور / صالح سبوعي

ثانيا: الانطلاق من المقصد (المعنى) للوقوف على النص

(التحليل المراعى فيه مقاصد الشارع)

الأصل في الدراسة التحليلية للنصوص اللغوية الاعتماد على الطريقة السابقة وفق تلك الأسس المبينة، ولكن إذا عرف مقصد النص يمكن تحليله ( النص ) وفق الأسس الآتية:

1- معرفة مقاصد الشريعة الضرورية والحاجية والتحسينية ومراتبها، وعلاقة كل واحد منها بالآخر.

2- الانطلاق من المقصد لتحديد الخصائص المعهودة للنص، والوقوف على سبب وروده بالشكل الذي ورد به.

3- معرفة أسباب ورود النص، وعادات العرب في أقوالها وأفعالها، ومجاري أحوالها حالة ورود النص المقصدي (الحامل للمقصد) .

4- عدم التكلف في التحليل المقصدي، ومحاولة عدم بسط سلطته على النص في تحديد خصائص لغته المعهودة. [ ص: 133 ]

الأنموذج التحليلي الأول الضروريات

* حفظ النسل (القرآن)

أ- المقصد المنطلق منه هـنا أحد الضروريات الخمس، وهو حفظ النسل.

قال تعالى: ( قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم ) (النور:30) .

لمـا كانت «الشريعة مبنية على الاحتياط والأخذ بالحزم، والتحرز مما عسى أن يكون طريقا إلى مفسدة» [1] ، ولما كان النظر بريد الزنى، ومفتاح الوقوع في المنكرات [2] التي تؤدي إلى فساد العرض والنسل؛ [ ص: 134 ] كان الأمر بحفظه (النظر) وصونه وسد بابه، وذلك بإقامة سياج متين [3] ، وحصن منيع حول حمى الدين ومحارمه.

وكان الأمر بغض البصر؛ سدا لباب الهواجس والوساوس عن قلب المؤمن، وما قد يترتب عنها من مفاسد، خاصة إشاعة مفسدة الزنى وبابها الواسع النظر الذي جاء تقديمـه عـلى حفظ الفرج، ( قال النبي صلى الله عليه وسلم : ... لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى وليست لك الآخرة ) [4] ، وقال أيضا: ( النظرة سهم من سهام إبليس مسمومة، فمن تركها من خوف الله أثابه إيمانا يجد حلاوته في قلبه ) [5] .

2- ورود الفعل المضارع «يغضوا» مجزوما على تقدير «قل للمؤمنين ليغضوا من أبصارهم» [6] والأمر (قل) قد أكسبه قوة الإلزام [ ص: 135 ] والوجـوب التي يحملها الأمر ذاته. فالنبي صلى الله عليه وسلم إذا أمر بأن يأمر غيره بشيء كان دالا على وجـوب فعل مأمور ذاته، ويصير ذلك بمنـزلة ورود الأمر ابتداء علـيه [7] ، وليس الأمر بغض البصر مطلقا؛ بحيث إن المؤمن يسير خافض العينـين لدرجـة الذل! أو مغمضهما حتى لا يرى طريقـه، وإنما الأمر فيه محاولـة كف البصر عن الاسترسـال، وكسر شعـاعه كلما وقـع على ما حرمه الله، وذلك ما يفيـده مجيء (من) التي تفيد التبعيض هـنا إيماء إلى أن الغض التام للبصر لا يتحقق!! وليس مأمـورا به، وإنمـا ببعض منه [8] ، بينما انعـدمت الأداة من جـملة ( ويحفظوا فروجهم ) المعطوفـة على جملـة (يغضوا من أبصارهم) ، وذلك لإفادة أن الحفظ هـنا يكون تاما مطلقا، وليس بعضه فقط مثلما هـو الأمر في غض البصر.

3- غض البصر أو الطرف: كفه وخفضه وكسره [9] ، وما يحمله الكف أو الخفض أو الكسر من جهد وإرادة، كما أن الغض يفيد معنى [ ص: 136 ] الطراوة والغضاضة؛ فتقول: شيء غض، وغضيض: أي طري [10] . وجاء التعبير هـنا بالغض بدل الخفض أو الكف أو الإغماض لما يحمله الغض من يسر وليونة وغضاضة، وفي ذلك دلالة على حياء الغاض طرفه، وفي الوقت نفسه فيه مراعاة للمغضوض عنه؛ فلا تجرح مشاعره، ولا تثار في نفسه الوساوس والشكوك حين صرف النظر عنه، خاصة إذا كان ممن يجهل الأدب الإسلامي في النظر، أو كان صاحب نفس توسوس له في كل صغيرة وكبيرة؛ فيكون الغض شاملا لأدب الحياء الإسلامي، وصارفا للوساوس من نفس المغضوض عنه!

4- اللجوء إلى الأسلوب البلاغي المتضمن «إيجازا بالحذف»؛ أي حذف ما يغمض البصر منه؛ وهو ما حرم الله، فكأن حذفه يدخل في باب المعلوم بالضرورة، وما الأمر هـنا بالغض إلا تذكرة بما يجب أن يكون عليه البصر.

5- تحقيقا لمقصد الشارع في حفظ النسل والعرض، وإشاعة للأمن والاستقرار في النفوس، كان الأمر بغض البصر؛ بكسر شعاع الرؤية وكفه [ ص: 137 ] عما حرمه الله، وكل ما من شأنه أن يكون ذريعة إلى إثارة شهوات النفس، وهواجسها الشيطانية التي قد يترتب عنها من المفاسد ما يترتب.

الالتزام بأمر الله في ذلك يحقق مقصد الشارع الأصلي المتمثل في حفظ النسل والعرض، كما يحقق المقصـد التابع له، المتمثل في إشاعة الحياء والعفاف والطهر في المجتمع الإسلامي، وإبعاده عن الرذائل، وتنقية نفوس أبنائه وتطهيرها من الهواجس والوساوس الشيطانية الداخلة عليهم من عـدم غض البصر! ويوفر هـناءة البال لهم ( ذلك أزكى لهم ) ، كما تشيع السكينة في نفوسهم.

في إطار علاقة الجزء بالكل، ومراعاة للسياق الذي ورد فيه النص؛ فإن وروده ضمن سورة تحمل من التعاليم الربانية والآداب السامية والفضائل (أحكام الاستئذان وآدابه، وأحكام العورة وغض البصر، وحد الزنى، وحد القذف، واللعان، وآداب الدخول إلى البيوت المسكونة وغير المسكونة) التي تكاد جميعها ترتبط بعلاقة ما بغض البصر، ضف إلى ذلك معالجتها لموضوع الإفك [11] الذي يرتبط بالطعن في أعراض المسلمين، والناتج في الغالب عن تقليب النظر جيئة، وذهابا! دون غضه، وكل ذلك ما يعد دليلا على ما يمكن أن يشع في قلب المؤمن من نور الإيمان إن هـو تمسك بأوامر ربه، وما قد ينتج عنها من آثار اجتماعية حسنة، ورائدها الطهر والنقاء. [ ص: 138 ]

* حفظ العقل (الحديث)

( قال الرسول صلى الله عليه وسلم : «طلب العلم فريضة على كل مسلم». ) [12] 1- كل ما هـو أسـاس لقيام مصالح الدين والدنيا؛ بحيث إذا فقـد لم تجر الحياة على استقامة، فذلك هـو الضروري [13] ، ومن أوكد الضروريات، ومعلومها حفظ الدين والنفس والعقل والمال، وباخـتلال عنصر منها، أو جميعها يختل نظام الحياة، وينعدم توازنها.

2- ظاهر النص حث على التعلم، وترغيب فيه يصل إلى درجة الفريضة التي تلزم المسلم؛ ذكرا كان، أو أنثى. ويؤكد أهمية إدراج الأخيرة ما تستدعيه وظيفة الأمومة في العصر الحديث من ثقافة ومعرفة، تلزم الأنثى معرفتها، وجهلها لها قد يؤدي بها إلى الإخلال بوظيفتها.

3- من منطلق أن حفظ الدين هـو أول مرتبة في الضروريات، وحفظه في المقدمات، وربطا مع تركيب النص «الفريضة» «المسلم» يستشف أن العلم الواجب طلبه هـو ما لا بد منه للمسلم، في دينه ودنياه؛ أي في حدود ما تعرف به العقيدة، وما تصح به العبادة، وما يمكن به ضبط السلوك مع النفس، ومع المجتمع [14] . [ ص: 139 ] 4- من العلم المفروض هـنا مثلا، تعلم شيء من العربية في حـدود ما تتلى به أم القرآن في الصلاة، مع بعض الآيات، وما تقوم به الصلاة من التكبيرات والتسبيحات والسلام [15] ، وما من شأنه أن يحفظ به الفرد دينه.

5- في محاولة وجدان المعرفة وتحصيلها [16] إنارة للعقل، وتحصين له من الجهل، وصونه من الخرافات والضلال؛ لهذا كان العلم فريضة شرعها الله لحفظ العقل الذي هـو أساس لتكليف المسلم شرعا، وإلزامه بتعاليم الدين؛ فحفظ العقل من مكملات حفظ الدين، ولا دين لمن لا عقل له؛ من هـنا كان إنزال طلب العلم منـزلة الفريضة.

6- تؤكد النظرة الكلية لمجموع ما ورد من أحاديث في طلب العلم أن العلم المفروض عينيا هـنا هـو العلم الشرعي الذي يتحصن به المسلم من مسالك التيه والضلال ومداخل الشيطان؛ لهذا عد ( فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد ) [17] ، كما أن «بابا من العلم يحفظه الرجل لعلاج نفسه، وصلاح من بعده، أفضل من عبادة حول» [18] . [ ص: 140 ] 7- يتحدد دور العلم ( المفروض) بأنه هـو العاصم من الانحراف، ويشمل فقه الحياة، وما تقوم عليه المدنية، وبه ينهض أساس المسلمين، وتقوى شوكتهم؛ فكل واحد على ثغرة من ثغر الإسلام فلا يؤتين من قبلها. وإذا كان الواجب يفرض تعلم ما يمكن أن تسد به تلك الثغرة صار ذلك العلم واجبا في حق القائم على تلك الثغرة؛ إذ أنه قد يكون في ضياعها ضياع للأمة وهلاك لها، وفي ذلك هـلاك للدين، فما لا يتم المطلوب إلا به، فهو مطلوب، وذلك معيار العلم الواجب.

يتضح أن المقصد الأساسي للنص هـو توجيه المسلم نحو ما ينير عقله، ويحفظه من ظلمات الجهل، وفي ذلك حفظ للعقل الذي يعد حفظه من المقاصد الضرورية للشارع، وفيه أيضا تكملة، وتتمة لحفظ مقصد آخر أساس يتبوأ صدارة المقاصد، وهو مقصد حفظ الدين؛ إذ لا يمكن البـتة أن يقوم دين على جـهل «فإذا مـات العقـل مات الدين» [19] ، أو أصبـح دجـلا وشعوذة. ولأهمية حفظ العقل في حفظ الدين كان قوله تعالى: ( يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ) (المجادلة:11) ،

وكان أيضا دعاء المؤمن المستنير: ( وقل رب زدني علما ) (طه: 114) . [ ص: 141 ]

الأنموذج التحليلي الثاني: الحاجيات

* الحاجي (القرآن)

قال تعالى: ( وأحل الله البيع وحرم الربا ) (البقرة: 275) .

يتدرج ترتيب المصالح من الضروري إلى الحاجي، ثم التحسيني، وتلتقي عند كون أحدهما يكمل الآخر ويدعمه؛ فالحاجي تكملة للضروري وتتمة له، وكذلك التحسيني بالنسبة إلى الحاجي، وكلاهما تكملة للضروري.

ويعرف الحاجي بأنه ما تحتاج إليه الأمة لاقتناء مصالحها، وانتظام أمورها على وجه حسن؛ فالحاجة إليه من حيث التوسعة على العباد، ورفع الحرج والضيق عنهم [20] .

1- ولمـا كان البـيع عملية تتبادل فيها المصالح والمنافع، وبها تقضى الحاجات على سبيل التراضي والقبول؛ من حيث إن البائع يتجشم المشقة «لجلب ما يحتاج إليه المتفضلون، وإعداده لهم عند دعاء حاجتهم إليه مع بذلهم له ما بيدهم من المال» [21] وبذلك تتحقق المصلحة والمنفعة [ ص: 142 ] للطرفين؛ البائع والمشتري، وبه تتوافر دواعي التوسعة، ورفع الضيق عن العباد؛ لهذا أحله الله، وأباحه لعباده ( وأحل الله البيع ) .

2- وبالمقابل كان هـناك وجه آخر لتبادل المنفعة! ولكن على سبيل الإكراه والاضطرار، وانتفاع طرف دون الآخر؛ وذلك ما يمثله باب الربا الذي حرمه الله ( وحرم الربا ) ، ومنع من التعامل به، والبيع جنس قائم بذاته، مثلما الربا جنس قائم بذاته، وذلك ما تؤكده أداة التعريف (ال) التي تفيد الجنس [22] ، ويؤكد ذلك ورود كل من الفعل (أحل) ، و (حرم) ؛ فالأول يفيد تحليل جنس البيع، والثاني يفيد تحريم جنس الربا.

3- تحليل البيع إذا فيه منفعة للعباد (بائعهم ومشتريهم) ، وتبادل لمصالحهم على وجه يرفع عنهم الحرج والضيق، وذلك مقصـد الشارع؛ إذ ما فيه توسعة للعباد، وتسهيل لمصالحهم على وجه يحقق المنفعة المتبادلة بينهم (كالبيع مثلا ) ففيه مقصـد للشارع، وما فيه حرج ومشقـة لهم، أو منفعة لطرف دون طرف فتحريمه فيه مقصد للشارع أيضا؛ من حيث رفع الحرج والمشقة.

4- تحليل البيع يحقق مقصدا ضروريا للدين يتمثل في حفظ الأموال، وتمكين تداولها بين العباد على الوجه اللائق الذي يمتنع فيه أن يكون المال [ ص: 143 ] دولة بين المرابين، وفي الوقـت نفسه يتحقق المقصد الحاجي المتمثل في رفـع الحرج والمشقة عن العـباد، وتمـكين لأمورهم أن تسـير على نظام متوازن.

5- الالتزام بأمر الله؛ بالاشتغال بالبيع على وجهه المطلوب، فضلا عن أن فيه تحقيقا لمقصد الشارع؛ ضروريه وحاجيه، ففيه أيضا خلق للنشاط والحركة اللازمين لجلب ما يحتاجه البيع، وبهما ( النشاط والحركة) يقوم العمران، وتنشأ الحضارات [23] ، أما نقيض ذلك، وهو الربا فهو مهلكة للأمة وفناء لها؛ لأنه يحقق الربح دون نشاط وحركة! وفي ذلك مهلكة للأمة وأية مهلكة!!

6- إذا تعارض الحاجي مع الضروري كان تقديم الضروري على الحاجي؛ من هـنا كان منع البيع الحلال وقت النداء لصلاة الجمعة، لتعارضه مع الدين، وكان تحليله في غير ذلك، والمحافظة على الدين أولى من المحافظة على المال، كما قد يمنع أيضا إذا خرج البيع من جنسه إلى جنس الربا؛ حينئذ ينتفي مقصد تحليله وهو رفع الحرج والضيق، ويصير إلى عكس ذلك؛ فتحريمه أولى من تحليله! [24] ( الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، [ ص: 144 ] والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، يدا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء ) [25] ( فإذا اختلفت هـذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد ) [26] .

7- للنص أبعاد نفسية واجتماعية تتمثل في تحليل البيع الذي فيه دفع للنشاط والحركة في النفوس، وذلك يجعل الفرد المسلم الـمزاول للبيع دائم النشـاط والحركة، وما قد ينتج عنهما من صحة وعافية، كما أن قيام البيع على التراضي والقبول فيه راحة نفسية للبائع والمشتري، ودفع للإكراه والحرج الحاصلين في الربا!!، وذلك يبعد الحقد والضغائن عن النفوس، فتتعامل بسماحة وتعاون. وفي تحليل البيع أيضا، تمكين لشبكة العلاقات الاجتماعية من التوسع والترابط؛ خاصة إذا كان البائع فردا مسلما!، وقد يكون ذلك مدعاة لنشر دين الله، وتمكين له في الأرض. كما أن البيع يوفر عنصرين أساسيين لكل حركة عمران وإنشاء حضارة: وهما النشاط والحركة؛ فالبيع قد ينتج حضارة وعمرانا مثلما قد تنتجهما وسائل أخرى. [ ص: 145 ]

* الحاجي (السنة)

( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وما صدت بقوسك فذكرت اسم الله فكل، وما صدت بكلبك المعلم فذكرت اسم الله فكل، وما صدت بكلبك غير معلم فأدركت ذكاته فكل. ) [27] 1- الأساس في المقصد الحاجي هـو رفع الحرج والضيق عن العباد، والتوسعة عليهم في معاشهم.

2- يقرر النص جانبا من جوانب التوسعة على العباد ويؤكده؛ وهذا الجانب هـو الصيد، وما يحمله من التمتع بالطيبات والنعم التي خلقها الله لعباده.

3- الصيد في أساسه من الحاجيات التي لا تتوقف عليها ضروريات الإنسان، من حفظ دين أو نفس أو عقل؛ إذ قد يقوم دين الإنسان، وتقوم حياته أيضا دون صيد، لتوافر مقومات أخرى للحياة، باستثناء حالات معينة يكون الصيد فيها ضروريا إذا توقفت عليه حياة الإنسان. وقد عرفت العرب الصيد، وكان من أنواع عبثها، ومما تتلذذ بممارسته، وقد ضمنته أشعارها [28] .

4- يرتبط النص بسابقه ( النص المحلل قبله) في كونه يحدد طيبات البر، وما يصاد منها، بينما النص السابق يبيح صيد البحر وطيباته؛ وفي [ ص: 146 ] اتحاد إباحة الصيد في كل من البر والبحر توسعة على العباد، وبسط في أرزاقهم، وأي بسط وتوسعة هـما !!.

5- إن ورود تركيب النص حاملا لوسائل صيد متعددة، وربطا مع السياق الذي ورد فيه؛ من حيث مجيئه رافعا الحرج عمن توهم الوقوع فيه [29] ، وبإضافته إلى مجموع النصوص الأخرى التي تدور في الإطار نفسه مثل قـوله تعالى:

( وإذا حللتم فاصطادوا ) (المائدة:2) ،

وقـوله أيضا: ( أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح ) (المائدة:4) ،

وقولـه: ( أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم ) (المائدة:96) ،

وغيرها من النصوص القرآنية والحديثية التي تبيح الصيد، وجميعها يؤكد أمر التوسعة على العباد، ومجانبة وقوع الحرج عليهم والضيق.

6- تركيب النص يؤكد أن الإباحة هـنا ليسـت على إطـلاقها، وإنما هـي بشروطها، وضوابطها؛ وذلك واضح من ورود أداة الشرط (ما) التي ابتدئ بها النص، وجاءت متضمنة في كل عباراته، وما ذلك إلا دلالة على دوران المقصد الحاجي في فلك المقصد الضروري، وهو مقصد حفظ الدين.

7- الإباحة هـنا على التخيير، لا على الإلزام والإجبار. [ ص: 147 ] 8- في تحقيق المقصد الأصلي للنص الذي هـو تكملة لمقصد ضروري يتمثل في حفظ النفس؛ فإنه بذلك يتحقق أيضا مقصد حفظ الدين؛ إذ في التوسعة ورفع الحرج ما يدعو النفوس إلى الإقبال على الدين، والرضا بأحكامه!، ضف على ذلك أن عبارات النص تدعم مقصد حفظ الدين؛ بربط المقصد الحاجي (إباحة الصيد) بشروطه الدينية [30] (البسملة، الكلب المعلم،...) تأكيد على دوران الحاجي في فلك الضروري (حفظ الدين) .

9- في تحقيق المقصد الحاجي تتحقق منافع للعباد ومصالح لهم؛ حيث تتسع سبل المعيشة أمـامهم، ويفتح لهم باب الحياة واسـعا لا ضيق فيه ولا حرج، كل على حسب بيئته وطاقته ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) (البقرة: 286) ؛

فمن بيئته البرية فصيده فيها، ومن بيئته البحر وشطآنه فمعيشته فيه، والأمر على التخيير والإباحة والتوسعة، وكل ذلك مما يضمن حفظ الدين، وممارسة العباد لشعائره على أساس من السعة ورفع الحرج: ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) (البقرة: 185) .

10- ارتباط الأمور الدينية بالأمور الدنيوية يؤكده مجيء عبارة «فذكرت اسم الله عليه»، كما يؤكد رفع الحرج، والضيق في الصيد أيضا مادام مرتبطا باسم الله. [ ص: 148 ]

الأنموذج التحليلي الثالث: التحسينات

* التحسينات (القرآن)

قال تعالى: ( يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد ) (الأعراف:31) .

تحدد التحسينات بأنها «الأخذ بما يليق من محاسن العادات، وتجنب الأحوال المدنسات التي تأنفها العقول الراجحات» [31] ، فبالأخذ بها تتحضر الأمة، ويكمل حالها، ويحترم جانبها، بل قد يتقرب إليها، ويرغب في الانضمام إليها [32] ، والدخول تحت عنوانها!.

1- من أكثر الأحوال المدنسات التي تأنفها العقول الراجحات، ويرفضها كل صاحب فطرة سليمة كشف العورة! وهي مما يخرج المرء من نطاق الآدمية إلى حظيرة البهيمية.

2- جاء النداء من رب العباد إلى العباد متضمنا وجوب ستر العورة ( خذوا ) حين الإقبال على أداء الصـلوات، والدخول في الجماعات؛ لما يتضمنه المسجد من لقاءات وتجمعات. [ ص: 149 ] 3- ورد الخطاب في النص عاما لجميع بني آدم ( يا بني آدم ) ، وإن كان الأصل فيه أنه وارد لسبب خاص بأولئك الذين كانوا يطوفون بالكعبة عرايا [33] ، ظنا منهم أنهم أقرب إلى الفطرة السليمة، وأن ذلك أوجب للمغفرة، فأخذ النص على عمومه أخذا بمقولة «العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب» .

4- ورد الخطاب لبني آدم بحرف النداء الذي يستخدم للبعيد، وكان الأولى أن يكون النداء بما يستخدم للقريب؛ إذ المنادى عليهم كانوا أقرب إلى الله تعالى من غيرهم، باعتبار أنهم كانوا يطوفون حول بيته الحرام!، ولعل في ذلك إشعارا من الله تعالى لأولئك الذين كانوا يطوفون عراة، ولأمثالهم بأنهم بعيدون عن الفطرة السليمة والشرعة القويمة [34] ، فكان النداء بـ (يا) تأكيد بعدهم عن الله تعالى، رغم قربهم الظاهر منه، ودلالة أيضا على أن العري أبعد ما يكون عن مظاهر المدنية، والتحضر!

5- بمراعاة السياق العام الذي ورد فيه النص، وعلاقته بالنصوص الأخرى الواردة في السورة نفسها ( السياق العام ) يستشف منها أن الأمر بالزينة يتضمن الوجـوب من حيث ستر العورة، أما التزين أو اللباس [ ص: 150 ] على سبيل التحسين أو التجمـيل، فالأمر فيه عـلى الندب والتحسين ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) (البقرة: 286) ،

كما أن الستر أخص من الزينة، وهي أعم منه، فالخاص يقدم على العام.

6- يحقق النص مقصدا أساسيا، ولأجله ورد، وهو ستر العورة، وعـدم إظهار السـوأة، وفي ذلك حفـظ للنفس والدين ( نهيت عن التعري ) [35] ، وفي الوقت نفسه فيه توسعة على العبد؛ فالزينة التي هـي «اسم جامع لكل شيء يتزين به» [36] تشمل اللباس الحسن، كما تشمل غيره من نعم الله، وما من شأنه أن يظهر المرء في شكل حسن، ومنظر جميل؛ وذلك التخيير يفتح الباب واسعا أمام الفرد ليختار زينته على حسب طاقته، وما يلائمـه، وفي حـدود التوسط والاعـتدال ( كل ما شئت، والبس ما شئت، ما أخطأتك اثنتان، سرف أو مخيلة ) [37] .

7- التزام المسلمين بالتزين على حسب السعة والطاقة، وبما يحقق المنظر الحسن، والهيئة الجميلة حين الالتقاء بالإخوان، وعند الاجتماع بهم، وفي إطار تحقيق أوامر الله تعالى، فيه تحسين لحالة المسلمين، وبث للانشراح [ ص: 151 ] في صدورهم؛ لما في المنظر الحسن من انشراح وراحة بال. كما يحقق الصحة والجمال في المجتمع المتزين؛ فالزينة لا تكون إلا عن نظافة وحسن... وذلك قد يكسب المجتمع المتزين أفراده احتراما وتوقيرا ورغبة من الآخرين في الانضمام إليهم وتقليدهم، وقد يؤدي ذلك إلى اتباع دينهم ما دام هـو باعثهم على التزين، ولأجله كان أخذ الزينة ( كل مسجد ) .

* التحسينات (الحديث)

( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أصيبوا من الطيب ) [38] .

1- يدور هـذا النص في فلك النص السابق له ( خذوا زينتكم ) ، ويخدم المقصد نفسه الذي يخدمه ذلك النص؛ والمتمثل في المقصد التحسيني للشارع الذي يعد الأخذ به أخذا بمحاسن العادات.

2- ورد الأمر فيه على سبيل الندب والتحسين، لا على سبيل الواجب والإلزام، وذلك يؤكده ربط النص بسياقه الذي ورد فيه، وسياقات نصوص أخرى مقترنة به؛ فالحديث ورد في سياق الغسل ليوم الجمعة، وترتيبه يأتي بعد الحث على غسل الجمعة [39] ، والغسل فيه من [ ص: 152 ] النظافة ما يغني عن الطيب، إلا أنه قد ورد الحث على تناول شيء من الطيب وإصابته على سبيل التجمل ليوم الجمعة، وما ذلك إلا تحسينا لهيئة المسلم وتجميلا لحالته، خاصة وأنه ذاهب لملاقاة ربه، وفي الوقت نفسه لقاء إخوانه من المصلين.

3- ارتباط النص بأكبر تجمع للمسلمين بعد تجمع الحج يؤكد أن الحث على أخذ شيء من الطيب إن وجد، فيه تأكيد التمسك بما يقرب المسلمين من بعضهم بعضا، ومما يشوق إلى تلاقيهم، لا تباعدهم؛ خاصة مع ما ينشره الطيب من أريج فواح تشتاق الأنفس إليه قبل الأنوف، وترتاح إليه الأنفس، وتتمنى الاستزادة منه أنى وجدته، خاصة إذا كان الطيب من أطيب الطيب وأجوده ( وليمس أحدكم من أطيب طيب إن كان عنده ) [40] .

4- يخدم النص مقصدا من مقاصد الشرع التحسينية يتمثل في التمسك ببعض العادات والآداب الحسنة (أدب التطيب، والتزين) ، وفي الوقت نفسه يعد تكملة وتتمة تخدم المقصد الضروري وهو حفظ الدين، خاصة إذا روعي في النص ارتباطه بسياق صلاة الجمعة؛ إذ في وجود الرائحة الطيبة العطرة في مكان تجمع المسلمين مدعاة للإقبال عليه، وفي [ ص: 153 ] المقابل وجود غيرها من روائح كريهة، أو مؤذية فإن ذلك مدعاة إلى النفور من مكان اللقاء، والتجمع إن كان الأمر على التخيير، وعلى التواني والتراخي إن كان الأمر على الإلزام كصلاة الجمعة مثلا.

5- في التمسك بالنص وأمثاله تمسك بآداب الشارع وأوامره أساسا، وفي الوقت نفسه تحقيق لمنفعة الفرد المسلم متمثلة في الراحة النفسية التي يحس بها نتيجة الطيب، كما يحقق منفعة عامة لعموم أفراد المجتمع الإسلامي تتمثل في تآلفهم، وحسن ترقبهم إلى لقاء بعضهم بعضا، كما أن ذلك قد يدعو الآخرين، من غير المسلمين إلى حسن الاقتداء بهم، والنسج على منوالهم، وربما كان ذلك مدعاة لهم إلى الدخول في دين التطيب والتزين، لأجل الدين ذاته المحبب إلى الطيب، المرغب فيه.

6- إصـابة الطيب تكون على قـدر الطاقـة والسعة، وعلى قدر ما يتوافر منه، ويوجد. ويؤكد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : «أصيبوا» وما تفيده الإصابة من معنى الأخذ والتناول [41] على حسب السعة والطاقة والميسور، وعلى حسب الاختيار، لا على حسب الوجوب والإلزام. [ ص: 154 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية