الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

النص الشرعي وتأويله (الشاطبي أنموذجا)

الدكتور / صالح سبوعي

- اللغة والاختلاف في أحكام الشريعة

في عـلاج الشـاطبي، رحمه الله، لمسألة الخـلاف الواقع بين حملة الشريعة في الآراء والأحكام، يورد أسبابا ثمانية مقتبسة من ابن السيد البطليوسي (ت521هـ) [1] . ومما لـه وثيق صـلة باللغـة من هـذه الأسباب نجد [2]

1- الاشـتراك الواقع في الألفاظ

، واحتمالـها للتأويلات، وهو ثلاثة أقسام: [ ص: 86 ]

أ- اشتراك في اللفظ المفرد: مثل كلمة (القرء) التي يشترك فيها الطهر والحيض،

في قوله تعالى: ( والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ) (البقرة:228) .

فقـد ذهب بعض إلى أن «القرء» هـو الطهر، وذهب بعض إلى أنه الحيض، وكل اعتمد على قرائنه وشواهده، وما احتمال الـلفظ لكليهما إلا لكـونه يصلح لهما في أصل الوضع، ويعني «دنو وقت الشيء» [3] .

ب- اشتراك في أحواله العارضة في التصريف، نحو ( ولا يضار كاتب ولا شهيد ) (البقرة:282) ، وما يحمله الإدغام في (يضار) التي أصلها ( يضارر) من معنيين:

1- أن يقع الإضرار من الكاتب بالنقص، أو الزيادة.

2- لا يجوز أن يقع الإضرار على الكاتب، والشهيد بمنعهما من أعمالهما، وتعطيل مصالحها [4] .

ج- اشتراك في التركيب، وهو الواقع في تقدير العائد على ما قبله، عند توارد الاحتمالات، ومثاله: قوله تعالى: ( وما قتلوه يقينا ) [ ص: 87 ] (النساء:157) . فقـد ذهب قـوم إلى أن الضمـير في ( قتلوه ) يعود إلى المسيح، وقوم يرون أنه يعود إلى العلم المذكور في قوله تعالى في الآية نفسها: ( ما لهم به من علم إلا اتباع الظن ) بناء على قول العرب: (قتلت الشيء علما) [5] .

2- دوران اللفظ بين الحقيقة والمجاز

، وهو ثلاثة أقسام أيضا:

أ- ما يرجع إلى اللفظ المفرد

، ومثاله : حديث النـزول في ( قوله صلى الله عليه وسلم : «ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له؟ ) [6] ، ذهب بعض إلى أن النزول الوارد هـنا على الحقيقة، وقوفا على ظاهر اللفظ، وذهب بعض إلى أنه من المجاز، وتأويله أن الله -وهو العليم البصير- ينزل ملكا من ملائكته فينادي بأمره [7] .

ب- ما يرجع إلى أحواله

، ومثاله قوله تعالى: ( بل مكر الليل والنهار ) (سبأ:33) .. فالمراد مكركم بالليل والنهار، فحذف المضاف إليه ، وحل محله الظرف اتساعا، فإن كان كذلك كان من باب الحقيقة، أما إذا كان التقديم بنسبة الإسناد إلى الظرف، كان مجازا عقليا. [8] [ ص: 88 ]

ج- ما يرجع إلى جهة التركيب وبناء بعض الألفاظ على بعض

وهو ما يورد من الـكلام بصورة غـيره؛ كالأمر يرد بصيغة الخبر، والخبر يرد بصـيغة الأمر، والمدح يرد بصيغة الذم، والذم يرد بصيغة المدح، والنفي يرد بصيغة الإيجاب ... ونحو ذلك من أساليب اللسان العربي التي لا يقف عليها إلا من أدركها، وأحاط بها.

ومثاله: قوله تعالى: ( والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة ) (البقرة:233) ،

فالأمر هـنا ورد بصيغة الخبر ( يرضعن ) ، ومعـناها «ليرضـع الوالدات أولادهن»، فالآية فيها معنى الأمر، وليس معنى الإخبار. [9] وعلى ذكر المجاز، يرى الشاطبي أن المجاز أحد أوجه تصرف العرب في لسانها، ومعرفته بالإضافة إلى معرفة بقية التصرفات العربية، مما يتمكن به من تأويل القرآن الكريم تأويلا صحيحا يتلاءم ومعهود العرب في كلامها. أما تجاهله، أو إنكار وجوده، والتأويل على غير معهود العرب فذلك مظنة الوقوع في الزلل، والإشكالات. ومثال هـذا التأويل [10] : من أول كلمة ( سكارى ) في قوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى [ ص: 89 ] تغتسلوا ) (النساء:43) بسكر الغفلة والشهوة وحب الدنيا المانع من قبول العبادة، وتأويل كلمة ( جنبا ) في الآية نفسـها بأنها التضمخ بدنس الذنوب، أما الاغتسال هـنا فتأويله هـو التوبة.

فهذا التأويل، أو التفسير الباطني لا اعتبار له «لأن العرب لم تستعمل مثله في هـذا الموضع، ولا عهد لها به؛ لأنها لا تفهم من الجنابة، والاغتسال إلا الحقيقة» [11] . وذلك شأن كل تأويل يتجاوز فيه معهود العرب في تأويل ألفاظها، ووجوه تصريف معانيها [12] .

3- دوران الدليل بين العموم والخصوص

،

ومثاله قوله تعالى: ( وعلم آدم الأسماء كلها ) (البقرة:31) ،

فلفظ الأسماء صالح للعموم والخصوص؛ حيث يحتمل أسماء ما كان، وما يكون، واللغات، وأسماء الله، وأسماء الأنبياء [13] ، ومن هـنا وقع الاختلاف في تحديد أصل اللغة.

4- اختلاف الرواية

وذلك ناشئ عن إسـقاط شيء من الحديث لا يتم المعنى إلا به، أو لتصحيف، أو لجهل بالإعراب، ومباني كلام العرب، أو لنقل المعنى دون لفظه، أو نقل الحديث، وإغفال سببه الموجب [ ص: 90 ] له، أو كنقل الحديث من الكتب دون لقاء الشيوخ، والسماع من الأئمة؛ لأجل ذلك يعرض في الحديث إشكال يلزم اختلافا [14] .

5- دعوى النسخ وعدمه

؛ أي الاختلاف بين من ينكر وجـود النسخ في القرآن مطلقا، ومن ينكر وجود بعضه، وبين من يقر بوجوده، وما يترتب على ذلك من اختلاف في الآراء، والمذاهب [15] .

ثم أخذ الشاطبي يبين حقيقة تلك الأسباب التي أوردها ابن السيد، وفحواها، مبينا حقيقة الخلاف الذي يعتد به، والآخر الذي لا يعتد به، وهذا الأخير على ضربين [16] :

الأول

ما كان من الأقوال خطأ مخالفا لمقطوع به في الشريعة.

الثاني

ما كان ظاهره الخلاف، وليس في الحقيقة كذلك؛ فمن ذلك ما نقله المفسرون عن السلف من أقوال مختلفة في معاني ألفاظ الكتاب، وهي مختلفة في الظاهر، فإذا تؤمل فيها كانت مجتمعة على مقصد الشرع [17] لا خلاف فيها. [ ص: 91 ] ويؤكد الشاطبي أيضا أن «نقل الخلاف في مسألة لا خلاف فيها خطأ، كما أن نقل الوفاق في موضع الخلاف لا يصح» [18] . ولهذا يورد أسبابا عشرة يجعلها من الأسباب التي أوهمت بالاختلاف، وهي ليست من مسبباته، وهذه الأسباب هـي [19] 1- أن يذكر في التفسير عن النبي ( أشياء متعددة، أو عن أحد من أصحابه، أو غيرهم، ويكون ذلك المنقول بعض ما يشمله اللفظ، ثم يذكر غير ذلك القائل أشياء أخر مما يشمله اللفظ، فينصهما المفسرون على نصهما على أنه خلاف؛ ومن ذلك ما ذكر في شرح كلمة «المن» من معان، وجميعها تتفق على أنها نعمة من الله!

2- أن يذكر في النقل أشياء تتفق في المعنى، بحيث ترجع إلى معنى واحد، فيكون التفسير فيها على قول واحد، ويوهم نقلها على اختلاف اللفظ أنه خـلاف محقق، مثلما قيل في «السلوى»، وتلتقي جميعها على أنها طائر، سواء اختلف شكله، أم حجمه، أم لونه!

3- أن يذكر أحـد الأقوال على تفسـير اللغـة، ويذكر الآخر على التفسـير المعنوي، وفرق بين تقرير الإعراب وتفسـير المعـنى، [ ص: 92 ] وهما معا يرجعـان إلى حكم واحـد؛ لأن النظر اللغـوي راجع إلى تقرير أصل الوضـع، والآخر راجـع إلى تقرير المعنى في الاستعمال، مثلما قيل في قوله تعالى: ( تصيبهم بما صنعوا قارعة ) (الرعد:31) ، فقيل داهية تفجؤهم، وقيل سـارية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهما يتفقان في الفاجعة!

4- أن يقع تفسـير الآية، أو الحـديث من المفسر الواحد على أوجه من الاحتمـالات، ويبنـي على كل احتمـال ما يليق به، من غير أن يذكر خـلافا في الترجيح، بل على توسيع المعاني خاصة، وهذا ليس بخلاف مـادام لا يقوم على ترجيح أقوى الاحتمالات بما يعضده من أدلة.

5- أن يقع الخلاف في تنـزيل المعنى الواحد، فيحمله قوم على المجاز مثلا، وقوم على الحقيقة، والمعنى واحد. ومثال ذلك ما وقع في تفسير قوله تعالى: ( يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ) ، فمنهم من حـمـل الحياة، والموت على المجاز، ومنهم من حمله على الحقيقة، وكلاهما يلتقيان في معنى ( الحياة والموت) !

6- أن يقع الخـلاف في التأويل، وصرف الظاهر عن مقتضاه إلى ما دل عليه الدليل الخارجي؛ فإن مقصود كل متأول الصرف عن ظاهر اللفظ إلى وجه يتلاقى مع الدليل الموجب للتأويل، وجميع التأويلات في [ ص: 93 ] ذلك سواء، فلا خلاف في المعنى المراد، وكثيرا ما يقع هـذا في الظواهر الموهمة للتشبيه.

7- الخـلاف في مجرد التعبير عن المعنى المقصـود وهو متحـد، كما اختلفـوا في الخبر هـل هـو منقسـم إلى صـدق، وكذب خاصـة، أم ثم قسم ثالث ليس بصدق ولا كذب؟ فهذا خلاف في العبارة، والمعنى متفق عليه.

يرى الشاطبي أن هـذه الأسباب العشرة -أوردت منها سبعا لوثيق علاقتها باللغة- من موجبات عدم الاعتداد بالخلاف، ثم أوجب «أن تكون على بال المجتهد، ليقيس عليها ما سواها فلا يتساهل، فيؤدي ذلك إلى مخالفة الإجماع» [20] ، والوقوع في الخلاف. فمعرفة أسباب الاختلاف، وما يعتد به منها، وما لا يعتد به، مما يسـاعد الدارس على تبين أدلة كل فريق، والوقوف على الحق منها. ولعل في هـذا وأمثاله «ما جعل الشاطبي حريصا منذ البداية على أن يقدم «الموافقات» مشروعا إنقاذيا للتوفيق بعد الاختلاف، وللتوحيد بعد التشتت، وعملا يبغي به درجة القطع، ويستبدل الظن باليقين» [21] . [ ص: 94 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية