الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
- تأثيرات أخرى

- مراعاة الأحوال لفهم النص

للقرائن، مقالية كانت أم حالية، أهميتها ودورها الحاسم في تحديد معنى النص، وضبط مقاصده ومراميه، سواء أكان النص اللغوي شرعيا، أم غير ذلك [1] . وإن الاكتفاء بمجرد القرائن المقالية، بما تشمله من مستوى وظيفي (صوتي وصرفي ونحوي) ، أو مستوى معجمي لا تعطينا إلا «المعنى الحرفي» أو معـنى «ظاهر النص»، وهو معنى قد يكون فارغا من محتواه الاجتماعي، والتاريخي، منعزلا عن كل ما يحيط بالنص من القرائن الحالية ذات الفائدة الكبرى في تحديد المعنى [2] . لهذا كان تأكيد الأصوليين، وغيرهم لمراعاة القرائن الحـالية، أو «مقتضيات الأحوال» كما يسميها الشاطبي [3] ، فضلا عن مراعاة القرائن المقالية للوقوف على المعنى المراد من النص، أو تحقيقا لمقصده.

ويرى الشاطبي، رحمه الله، أن معرفة أسباب التنزيل، وهي من باب معرفة مقتضيات الأحوال في النص الشرعي، لازمة لمن أراد علم القرآن؛ [ ص: 95 ] وذلك أن «علم المعاني والبيان الذي يعرف به إعجاز نظم القرآن، فضلا عن معرفة مقاصد كلام العرب، إنما مداره على مقتضيات الأحوال» [4] ، وتشـمل «حال الخطـاب من نفس جهة الخطاب [5] ، أو المخاطب، أو المخاطب، أو الجميع؛ إذ الكلام الواحد يختلف فهمه بحسب حالين، وبحسب مخاطبين، وبحسب غير ذلك» [6] .

ومن مقتضيات الأحوال أيضا «معرفة عادات العرب في أقوالها، وأفعالها، ومجاري أحوالها حالة التنـزيل» [7] ، فإذا فات نقل بعض القرائن الدالة فات فهم الكلام جملة، أو فهم شيء منه، بالمقابل فإن معرفتها، والإحاطة بها تجنب الوقوع في الشبه، والإشكالات التي يتعذر الخروج منها إلا بهذه المعرفة [8] .

مثال ذلك: الاستفهام، لفظه واحد، ويدخله معان أخر من تقرير، وتوبيخ، وغير ذلك. أو الأمر، يدخله معنى الإباحة، والتهديد، والتعجيز، [ ص: 96 ] وأشباهها، ولا يدل على معناها المراد إلا الأمور الخارجية، وعمدتها مقتضيات الأحوال [9] .

والحاصل أنه لا ينبغي الاكتفاء بالمعنى الظاهر للنص الذي تبديه القرائن المقاليـة «منطوق النص» من أجل فهم النص اللغوي فهما صحيحا، وقوفا عند مراده المقصود، وتجنبا لاحتمالات كثيرة في تعيين ذلك المراد، ولا بد من التوغل في سبيل معرفة قرائنه الحالية بما تشمله من أسباب، وظروف، وحوادث، وشروط خارجية حددت استعمال ذلك النص، وألزمت وروده [10]

- تقديم الاهتمام بالمعاني والمقاصد على الاهتمام بالألفاظ

يكون الاهتمام بالخطاب من أجل المعاني المبثوثة فيه، والمقاصد التي أوجبته، ولا يكون بتتبع ألفاظه، والتكلف فيها؛ فقد كان اهتمام العرب بالمعاني المبثوثة في الخطاب. وما اعتناؤها بالألفاظ وإصلاحها إلا من أجل تلك المعاني، فالألفاظ والعبارات ما قصدت لنفسها، وإنما هـي للمعاني [ ص: 97 ] والتوصل بها إلى معرفة مراد المتكلم، ومقصوده [11] ؛ لهذا لزم أن يكون الاعتناء بالمعاني دون تكلف فيها، وفي عباراتها وألفاظها.

- القصد إلى الفهم والإفهام في النص

من أنواع المقاصـد لدى الشاطبي، رحمه الله، قصـد الشارع في وضـع الشريعـة للإفهام؛ وهو مقصد يفـيد أن القـرآن الكريم منزل بلسـان العرب، ولا يكون الفهم السليم للشريعة، ولا تفهم مقاصدها إلا من جهة لسان العرب. ومن جانب آخر جعل الشاطبي، رحمه الله، الفهم وفق مقتضيات اللسان العربي من وسائل معرفة مقاصد الشريعـة، ولهذا الرأي أهميته في فهم النصوص اللغوية وفق معهود أهلها في لسانهم [12] .

فالقصد إلى الفهم، والإفهام؛ أي القصد إلى إدراك معاني النص، ومقاصده، أو تبليغها يقوم في أساسه على مدى مراعاة العلاقة القائمة بين المرسل والمستقبل، ومدى اشتراكهما في عرف لغوي واحد، وخصوصا مدى معرفة المستقبل للغة النص الحامل للرسالة، ومدى الرابطة التي بينه، [ ص: 98 ] وبين تلك اللغة الحامـلة للرسـالة؛ إذ في استعمال لغة يدركها طرف دون طرف آخر؛ أي يدركها المخـاطب ويجهلها المخاطب؛ تعطيل للرسالة المنقولة بينهما [13] ، وحكم مسبق على بطلان مفعولها، وأثرها. وتبقى مجرد رموز، وطلاسـم لانعدام الرابطة في ذهن المتلقي للخطاب الذي يجهل لغته!!

وما تأكيد الشاطبي لمراعاة ذلك المعهود العربي في الفهم والإفهام أيضا، إلا محاولة منه لإنزال القرآن، أو النص اللغوي عموما على مستوى الفهم الجمهوري الذي يسع الأميين، كما يسع غيرهم [14] ، وتحقيق لنوع من الفهم الجماعي تتفق عليه الأغلبية؛ انطلاقا من العرف اللغوي للمخاطبين، أو الذين نزل القرآن بلسانهم، وتحقيق لمقصد الشارع في إنزال القرآن أساسا وهو الفهم والإفهام.

يستفاد من مراعاة الفهم، والإفهام في النص أنه حين رغبتنا في توليد اصطلاحات، أو معاني جديدة ( توليدا دلاليا ) ؛ فإن الحكم على ذيوع تلك الاصطلاحات، أو الدلالات، وبقائها مرهون بمدى إشاعتها في المجتمع، ونشرها بين أفراده تحقيقا لعرفيتها، أما ما عدا ذلك من عدم نشر تلك [ ص: 99 ] الاصطلاحات، أو الدلالات والاكتفاء بتداولها في محيط ضيق محكوم عليها بحصارها، وربما زوالها.

ويستفاد أيضا من مراعاة القصد إلى الفهم والإفهام أنه في عملية التعليم عمومـا، وفي تعليم اللغة العربية خصوصا، على المدرس أن يراعي أن مهمته هـي إفهام الطلبة مقاصده التعليمية، ثم فهم مقاصدهم، وغاياتهم، ومحاولة تعليمهم كيفية الفهم، والإفهام باستعمال اللغة المتعلمة، وليست عملية التعليم مجرد تلقين كلام فقط، أو حفظ دون مراعاة لذلك المقصد. ويشمل ذلك أيضا ضرورة مراعاة مستوى فهم جمهور الطلاب؛ ثاقب النظر منهم، وبليدهم، تحقيقا لتعلم أفضل وأقوم وأنفع.

يبين الشاطبي، رحمه الله، أيضا أن القرآن نزل عربيا، مبينا، وهاديا، والمبين والهادي لا يكون إلا واضـحا مفهما.. من أجل ورود النص القرآني أساسا لقصد الفهم والإفهام، وتأكيد من الشاطبي، رحمه الله، أيضا على أن النص القرآني جـاء أساسا لقصـد الفهم، والإفهام من هـنا كان تفصـيله لما لا يتبين المراد به من لفظـه في القرآن الكريـم، أو كما سماه المتشابه [15] ، ويشمل عنده المنسـوخ ، والمجمـل ، والعام ، والمطلق قبل معرفة مبيناتـها؛ أي قبل معرفة الناسخ، والمبين، والمؤول، [ ص: 100 ] والمخصص ، والمقيد التي تدخل جميعها تحت معنى المحكم الـذي يفهم معناه، والمراد به من لفظه.

والمتشـابه في القرآن قليل بالنسبة إلى المحكم، ومما يؤكد ذلك تسمية القرآن بالبيـان، والهدى، وأنه في أكثره محـكم، وقليل منه متشابه، وما فيه من متشـابه لا يتعلق بالمكلفين حكم من جهته زائد على الإيمان به [16] !

وحتى المتشابه الذي لا يتبين المـراد به من لفظه فإنه يمكن تسليط التأويل عليه أيضا؛ «رجـوعا إلى عادة العرب في كلامها، واتساعه من جهة الكناية ، والاستعارة ، والتمثيل ، وغيرها من أنواع الاتساع، تأنيسا للطالبين، وبناء على اسـتبعاد الخطاب بما لا يفهم» [17] ، والرأي نفسه يذهب إليه سابقه ابن قتيبة ( ت 276هـ) في حديثه عن تأويل المتشابه (المشكل) الذي يرى (ابن قتيبة) فيه حكمة بها يتمايز اللقن (السريع الفهم) عن غـيره من العباد. ففي وجـوده تمكين للعـالم، أو الفطن أن يؤوله، ويفهم معناه، وبه يحقق [18] قوله تعالى: ( وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم ) (آل عمران:7) ، ويغالي ابن قتيبة في الذهاب إلى [ ص: 101 ] تسليط التأويل على المتشابه، أما الشاطبي، رحمه الله، فيقف موقفا وسطا في ذلك؛ وهو إمكانية التـأويل. أما إذا انعـدم مبينه فالتسـليم به، والإقرار به كما جاء أولى وأسلم، إذا لم يبن عليه تكليف زائد. وذلك مذهب السلف الصالح من الأمة [19] .

إجمالا، يمكن أن نقول: إن «المشروع التأويلي للشاطبي، رحمه الله، الذي سعى من ورائه إلى وضع مبادئ وقواعد تأويلية، وألح على ضرورة الالتزام بها، إنما كان يهدف من ورائه إلى تعزيز وحدة الأمة عن طريق محاربة الفرقة، والفتنة التي نشأت بينها نتيجة التأويل الفاسد». [20] [ ص: 102 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية