الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          2282 - مسألة : من سرق من ذي رحم محرمة ؟ قال أبو محمد رحمه الله : اختلف الناس فيمن سرق من مال كل ذي رحم محرمة ؟ فقال مالك ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وأصحابهم ، وسفيان الثوري ، وإسحاق : إن سرق الأبوان من مال ابنهما ، أو بنتهما فلا قطع عليهما .

                                                                                                                                                                                          قال الشافعي : وكذلك الأجداد والجدات - كيف كانوا - لا قطع عليهم فيما سرقوه من مال من تليه ولادتهم .

                                                                                                                                                                                          وقال هؤلاء كلهم - حاشا مالكا ، وأبا ثور : لا قطع على الولد ، ولا على البنت فيما سرقاه من مال الوالدين ، أو الأجداد ، أو الجدات ، قال مالك ، وأبو ثور : عليهما القطع في ذلك .

                                                                                                                                                                                          وقال الثوري ، وأبو حنيفة ، وأصحابه : لا قطع على كل من سرق مالا لأحد من رحمه المحرمة .

                                                                                                                                                                                          وقال أصحابنا : القطع واجب على من سرق من ولده ، أو من والديه ، أو من جدته ، أو من جده ، أو من ذي رحم محرمة ، أو غير محرمة .

                                                                                                                                                                                          واتفقوا كلهم أنه يقطع فيما سرق من ذي رحمه غير المحرمة ، وفيما سرق من أمه من الرضاعة ، وابنته وابنه من الرضاعة ، وإخوته من الرضاعة ؟ [ ص: 335 ] قال أبو محمد : فلما اختلفوا كما ذكرنا ، وجب أن ننظر في ذلك لنعلم الحق فنتبعه - بعون الله تعالى - فنظرنا في قول من أسقط القطع عن الأبوين في مال الولد إذا سرقه ؟ فوجدناهم يحتجون بالثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله { أنت ومالك لأبيك } قالوا : فإنما أخذ ماله .

                                                                                                                                                                                          وقالوا : لو قتل ابنه لم يقتل به ، ولو زنى بأمة ابنه لم يحد لذلك ، فكذلك إذا سرق من ماله - قال : وفرض عليه أن يعفف أباه إذا احتاج إلى الناس فله في ماله حق بذلك .

                                                                                                                                                                                          وقالوا : له في ماله حق إذا احتاج إليه كلف الإنفاق عليه .

                                                                                                                                                                                          وقالوا : قال الله تعالى { وبالوالدين إحسانا } .

                                                                                                                                                                                          وقال تعالى { أن اشكر لي ولوالديك } . وقال تعالى { فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما } إلى قوله : { كما ربياني صغيرا } فليس قطع أيديهما فيما أخذ من ماله رحمة ؟ فهذا كل ما شغبوا به في كل ذلك - وكل ذلك لا حجة لهم في كل شيء منه ، بل هو عليهم ، كما نبين - إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                          أما ما ذكروا من القرآن فحق ، إلا أنه لا يدل على ما ادعوا من إسقاط القطع فيما سرقوا من مال الولد ، ولا على إسقاط الجلد ، والرجم ، أو التغريب - إذا زنى بجارية الولد - ولا على إسقاط الحد - إذا قذف الولد - ولا على إسقاط المحاربة - إذا قطع الطريق على الولد . أما قوله تعالى { وبالوالدين إحسانا } فإن الله تعالى أوجب الإحسان إليهما ، كما أوجبه علينا أيضا لغيرنا .

                                                                                                                                                                                          قال الله تعالى { وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والجار ذي القربى } . [ ص: 336 ] فإن كانت مقدمة الآية حجة بوجوب الإحسان إلى الأبوين في إسقاط القطع عنهما - إذا سرقا من مال الولد - فهي حجة أيضا - ولا بد - في إسقاط القطع عن كل ذي قربى ، وعن ابن السبيل ، وعن الجار الجنب ، والصاحب بالجنب - إذا سرقوا من أموالنا - وهذا ما لا يقولونه ؟ فظهر تناقضهم ، وبطل احتجاجهم بالآية .

                                                                                                                                                                                          وأيضا - فالأمر بالإحسان ليس فيه منع من إقامة الحدود ، بل إقامتها عليهم من الإحسان إليهم ، بنص القرآن ، لقول الله تعالى : { إن الله يأمر بالعدل والإحسان } وقد أمرنا بإقامة الحدود ، فإقامتها على من أقيمت عليه إحسان إليه ، وإنها تكفير وتطهير لمن أقيمت عليه .

                                                                                                                                                                                          وهم لا يختلفون في أن إماما لو كان له أب أو أم فسرقا ، فإن فرضا عليه إقامة القطع عليهما . فبطل تمويههم بالآية جملة وصح أنها حجة عليهم . وأما قوله تعالى { أن اشكر لي ولوالديك } فحق - ومن الشكر إقامة أمر الله تعالى عليهما ، وليس يقتضي شكرهما إسقاط ما أمر الله تعالى به فيهما والذي أمر بشكرهما - تبارك اسمه - هو الذي يقول { كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين } .

                                                                                                                                                                                          فصح أمر الله تعالى بالقيام عليهم بالقسط ، وبأداء الشهادة عليهم .

                                                                                                                                                                                          ومن القيام بالقسط إقامة الحدود عليهم - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          وهكذا القول في قوله تعالى { ولا تقل لهما أف ولا تنهرهما } الآية فليس في شيء من هذا إسقاط الحد عنهم في سرقة من مال الولد ، ولا في غير ذلك والله تعالى يقول { أشداء على الكفار رحماء بينهم } ولم يكن وجوب الرحمة لبعضنا مسقطا لإقامة الحدود بعضنا على بعض .

                                                                                                                                                                                          فبطل تعلقهم بالآيات المذكورات جملة . وأما قول رسول الله صلى الله عليه وسلم { أنت ومالك لأبيك } فقد أوضحنا ذلك : أن ذلك خبر منسوخ ، قد صح نسخه بآيات المواريث وغيرها . [ ص: 337 ] وأول من يحتج بهذا الخبر : فالحنفيون ، والمالكيون ، والشافعيون ; لأنهم لا يختلفون في أن الأب إذا أخذ من مال ابنه درهما - وهو غير محتاج إليه - فإنه يقضى عليه برده ، أحب أم كره - كما يقضى بذلك على الأجنبي ولا فرق ، ولو كان مال الولد للوالد لما قضي عليه برد ما أخذ منه .

                                                                                                                                                                                          فإذ قد صح أن هذا الخبر منسوخ ، وصح أن مال الولد للولد لا للوالد ، فقد صح أنه كمال الأجنبي ولا فرق ؟ فإن قالوا : إن للوالدين حقا في مال الولد ; لأنهما إذا احتاجا أجبر على أن ينفق عليهما ، وعلى أن يعف أباه ، فإذ له في ماله حق ، فلا يقطع فيما سرق منه : فهذا تمويه ظاهر ولم يخالفهم أحد في أن الوالدين إذا احتاجا فأخذا من مال ولدهما حاجتهما باختفاء أو بقهر أو كيف أخذاه - فلا شيء عليهما ، فإنما أخذا حقهما - وإنما الكلام فيهما إذا أخذا ما لا حاجة بهما إليه - إما سرا وإما جهرا - فاحتجاجهما بما ليس من مسألتهما تمويه .

                                                                                                                                                                                          وهم لا يختلفون فيمن كان له حق عند أحد ، فأخذ من ماله مقدار حقه ، فإنه لا يقطع ، ولا يقضى عليه برده - فلو كان وجوب الحق للأبوين في مال الولد إذا احتاجا إليه مسقطا للقطع عنهما إذا سرقا من ماله ما لا يحتاجان إليه ولا حق لهما فيه ، لوجب ضرورة أن يسقط القطع عن الغريم الذي له الحق في مال غريمه إذا سرق منه ما لا حق له فيه - وهذا لا يقولونه .

                                                                                                                                                                                          فبطل ما موهوا به من ذلك - والحمد لله رب العالمين . وأما قولهم : لو قتل ابنه لم يقتل به ، ولو قطع له عضوا أو كسره لم يقتص منه ، ولو قذف لم يحد له ، ولو زنى بأمته لم يحد ، فكذلك إذا سرق من ماله لم يحد ؟ فكلام باطل ، واحتجاج للخطأ بالخطأ .

                                                                                                                                                                                          بل لو قتل ابنه لقتل به ، ولو قطع له عضوا أو كسره لاقتص منه ، ولو قذفه لحد له ، ولو زنى بأمته لحد كما يحد الزاني - وقد بينا كل هذا في أبوابه في " كتاب الدماء ، والقصاص وحد الزنا وحد القذف " . قال أبو محمد رحمه الله : فإذ لم يبق لهم حجة أصلا ، فالواجب أن نرجع عند [ ص: 338 ] التنازع إلى ما افترض الله تعالى على المسلمين الرجوع إليه ، إذ يقول { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } الآية ففعلنا : فوجدنا الله تعالى يقول : { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } . ووجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أوجب القطع على من سرق ، وقال { إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام } ؟ .

                                                                                                                                                                                          فلم يخص الله تعالى في ذلك ولا رسوله صلى الله عليه وسلم ابنا من أجنبي ، ولا خص في الأموال مال أجنبي من مال ابن { وما كان ربك نسيا }

                                                                                                                                                                                          وبيقين ندري أن الله تعالى لو أراد تخصيص الأب من القطع لما أغفله ولا أهمله ، قال تعالى { تبيانا لكل شيء }

                                                                                                                                                                                          فصح أن القطع واجب على الأب ، والأم ، إذا سرقا من مال ابنهما ما لا حاجة بهما إليه .

                                                                                                                                                                                          ثم نظرنا في قول من احتج به من رأى إسقاط القطع عن الابن إذا سرق من مال أبويه ، وعن كل ذي رحم محرمة ؟ فوجدناهم يحتجون بقول الله تعالى { ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم } الآية إلى قوله تعالى : { أو صديقكم } . قال : فإباحة الله تعالى الأكل من بيوت هؤلاء يقتضي إباحة دخول منازلهم بغير إذنهم ، فإذا جاز لهم دخول منازلهم بغير إذنهم لم يكن مالهم محرزا عنهم ، ولا يجب القطع في السرقة من غير حرز .

                                                                                                                                                                                          وقالوا أيضا : فإن إباحة الأكل من أموالهم تمنعهم وجوب القطع لما لهم فيه من الحق ، كالشريك .

                                                                                                                                                                                          قالوا : وأيضا فإن على ذي الرحم المحرمة أن ينفق على ذي رحمه عند الحاجة ، فصار له بذلك حق في ماله بغير بدل ، فأشبه السارق من بيت المال . [ ص: 339 ] قالوا : ولما كان محتاجا إلى ما ينفقه عليه لإحياء نفسه كان ذلك لازما في جميع أعضائه ، فلذلك يسقط القطع عن اليد ؟ قال أبو محمد رحمه الله : فهذا كل ما موهوا به ، ولا حجة لهم في شيء منه أصلا ، على ما نبين إن شاء الله تعالى ، فأما الآية فحق ، ولا دليل فيها على ما ذكروا ، بل هي حجة عليهم ، وقد كذبوا فيها أيضا : أما كونها لا دليل فيها على ما ادعوه ، فإنه ليس فيها إسقاط القطع على من سرق من هؤلاء - لا بنص ولا بدليل - وإنما فيها إباحة الأكل لا إباحة الأخذ بلا خلاف من أحد من الأمة ؟ فإذا قالوا : قسنا الأخذ على الأكل ؟ قلنا لهم : القياس كله باطل ، ثم لو كان حقا لكان هذا منه عين الباطل ; لأن القياس عند القائلين به قياس الشيء على نظيره في العلة أو في شبه بوجه ما ، ولا يجوز عند أحد من الأمة - لا مجيز قياس ولا مانع - قياس الضد على ضده ، ولا مضادة أكثر ومن التحريم والتحليل ، وأنتم مجمعون - معنا ومع الناس - على أن الأخذ لعروض الأخ ، والأخت ، والعم ، والعمة ، والخال ، والخالة ، والأب ، والأم ، والصديق ، من بيوتهم ، ونقل ما فيها حرام ، وأن الأكل حلال ، فكيف استحللتم قياس حكم الحرام الممنوع على حكم الحلال المباح ؟ وأما قولهم في الآية ، وكذبهم فيها ، قول هذا الجاهل المقدم " إن إباحة الله تعالى الأكل من بيوت هؤلاء يقتضي إباحة دخول منازلهم بغير إذنهم " . فليت شعري أين وجدوا هذا في هذه الآية أو في غيرها ؟ فيدخل الصديق منزل صديقه بغير إذنه ؟ هذا عجب من العجب ، أما سمعوا قول الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم } إلى قوله تعالى { فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم } .

                                                                                                                                                                                          فنص الله تعالى على أنه لا يدخل بالغ أصلا على أحد إلا بإذن - ودخل في ذلك : الأب ، والابن ، وغيرهما ، حاش ما ملكت أيماننا ، والأطفال ، فإنهم لا يستأذنون إلا في هذه الأوقات الثلاث فقط - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية