الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
مسألة :

" فإذا بلغ الماء قلتين أو كان جاريا لم ينجسه شيء إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه وما سوى ذلك يتنجس بمخالطته النجاسة " .

أما الماء الدائم فظاهر المذهب أنه لا يتنجس بوقوع النجاسة فيه إذا كان كثيرا إلا أن يظهر فيه طعم النجاسة أو لونها أو ريحها وأن القليل ينجس [ ص: 63 ] بالملاقاة . وعنه رواية أخرى أن الجميع لا ينجس إلا بالتغير لما روى أبو سعيد الخدري قال : قيل : يا رسول الله أنتوضأ من بئر بضاعة ، وهي بئر يلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الماء طهور لا ينجسه شيء " ، وفي رواية أنه يستقى لك من بئر بضاعة وهي بئر يطرح فيها محائض النساء ولحوم الكلاب وعذر الناس ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الماء طهور لا ينجسه شيء " ، رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال حديث حسن ، قال الإمام أحمد هو حديث صحيح .

والصحيح الأول لما روى عبد الله بن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسأل عن الماء يكون في الفلا من الأرض وما ينوبه من السباع والدواب فقال : " إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث " .

[ ص: 64 ] رواه الأئمة الخمسة . ولفظ ابن ماجه وأحمد في رواية " لم ينجسه شيء " قال الترمذي : حديث حسن ، فلو كان القليل لا يحمل الخبث ولا يتنجس لم يكن لتقديره فائدة ، وصح عنه أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن البول في الماء الدائم ثم الاغتسال منه ، ونهى عن اغتسال الجنب فيه ، وأمر المستيقظ من نوم الليل ألا يغمس يده فيه ، وأمر بإراقة الإناء من ولوغ الكلب فيه ، وهذا كله يدل على أن القليل تؤثر فيه النجاسة ولأنه لقلته قد تبقى النجاسة فيه غير مستهلكة فيفضي استعماله إلى استعمالها ، وقوله صلى الله عليه وسلم : " لا ينجسه شيء " يريد والله أعلم أن ذات الماء لا تنقلب نجسة بالملاقاة فرقا بينه وبين المائعات حيث تنقلب نجسة بوقوع النجاسة فيها لأنه طهور يطهر غيره فنفسه أولى ، فأما إذا تغير بالنجاسة فإنما حرم استعماله كما يحرم استعمال الثوب الملطخ بالدم والبول ، فإذا زال التغير كان كزوال النجاسة عن الثوب ، ولهذا السبب كان سائر المائعات غير الماء [ ص: 65 ] ينجس بوقوع النجاسة فيه قليلا كان أو كثيرا في المشهور من المذهب ، وعنه اعتبار القلتين فيها كالماء ، وعنه اعتبارها فيما أصله الماء منها كخل التمر دون ما ليس أصله الماء كالعصير ، وحد الكثير هو القلتان في جميع النجاسات على إحدى الروايتين كما ذكره الشيخ واختاره أبو الخطاب ، وابن عقيل ، وأكثر متأخري أصحابنا على ظاهر حديث ابن عمر ، والرواية الأخرى أن البول من الآدمي والعذرة الرطبة خاصة ينجسان الماء إلا أن يكون مما لا يمكن نزحه كالمصانع التي بطريق مكة ، وأكثر نصوص أحمد على هذا ، وهو قول أكثر المتقدمين من أصحابنا ، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه " رواه الجماعة . وقال الخلال : وجدنا [ ص: 66 ] بإسناد صحيح عن علي أنه سئل عن صبي بال في بئر " فأمرهم أن ينزحوها " ، وأما الماء الجاري فعن أحمد ما يدل على روايتين إحداهما أنه كالدائم إذا كانت عين النجاسة في جريه منه تبلغ قلتين ولم تتغير فهي طاهرة وإن نقصت عنها فهي نجسة ، وإن كانت النجاسة واقعة بكل جرية تمر عليها ولم تتغير إن بلغت قلتين فهي طاهرة وإلا فهي نجسة ، والجرية ما تحاذي النجاسة من فوقها وتحتها وعن يمينها وعن شمالها ما بين جانبي النهر فأما ( ما ) أمامها فهو طاهر لأنها لم تلحقه وكذلك ما وراءها لأنها لم تصل إليه وإن اجتمعت الجريات كلها وفيها جرية طاهرة تبلغ قلتين فالجميع طاهر ما لم يتغير وإلا فهو نجس في المشهور ، وعلى قولنا إن ضم القليل إلى القليل أو الكثير النجس يوجب طهارة الجميع إذا زال التغير فهنا كذلك .

وقال ابن عقيل : متى بلغ المجموع هنا قلتين وكانت النجاسة في جرية منه فهو طاهر لأنه ماء واحد . وقال السامري : " إن كانت الجرية التي فيها النجاسة قلتين أو مجموع المتقدم والمتأخر قلتين فهو طاهر وإلا فلا " .

وهذه الرواية اختيار القاضي وجمهور أصحابنا لعموم حديث القلتين وقياسا للجاري على الدائم ، والرواية الأخرى أن الجاري لا ينجس إلا بالتغير قليلا كان أو كثيرا اختاره الشيخ وغيره وهو أظهر لأن النبي صلى الله [ ص: 67 ] عليه وسلم قال : " لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل منه " وفي لفظ " يتوضأ منه " ، ومفهومه جواز ذلك في الجاري مطلقا ، وكذلك قوله : " لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب " ومفهومه جواز الاغتسال في الجاري وإن استدبر الجرية ، وكذلك نهيه صلى الله عليه وسلم أن يبال في الراكد ومفهومه الإذن في البول في الماء الجاري ولو ينجسه لم يأذن فيه وكذلك حديث بئر بضاعة عام ، ومفهوم حديث القلتين لا يعارض هذا لأن قوله : " إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث " دليل على أن ما دون القلتين بخلاف ذلك ، وإذا فرقنا بين جاريه وواقفه حصلت المخالفة لا سيما وسبب الحديث هو السؤال عن الماء الراكد ، ولأن القليل الواقف إنما ينجس - والله أعلم - لضعفه عن استهلاك النجاسة ، والجاري لقوة جريانه يحيلها ويدفعها إذا ورد عليها فكان كالكثير .

التالي السابق


الخدمات العلمية