الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والتعبير بلفظ القوت والطعام والشراب ونحو ذلك عما يقيت القلوب ويغذيها كثير جدا، كما قال بعضهم: أطعمهم طعام المعرفة، وسقاهم شراب المحبة. وقال آخر:

لها أحاديث من ذكراك يشغلها عن الشراب ويغنيها عن الزاد

وكثيرا ما توصف القلوب بالعطش والجوع، وتوصف بالري والشبع. وفي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "رأيت كأني أتيت بقدح، فشربت حتى إني لأرى الري يخرج من أظفاري، ثم ناولت فضلي عمر"، قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: "العلم". فجعل العلم بمنزلة الشراب الذي يشرب.

وفي الصحيحين عن أبي موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا، فكانت منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها طائفة أمسكت الماء، فشرب الناس وسقوا وزرعوا، وكانت منها [ ص: 125 ] طائفة إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به من الهدى والعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به". فقد بين أن مثل ما بعثه الله به من الهدى والعلم مثل الغيث الذي تشربه الأرض، فتخرج فنون الثمرات، وتمسكه أرض لتنتفع به الناس، وأرض ثالثة لا تنتفع بشربه ولا تمسكه لغيرها. فتبين أن القلوب تشرب ما ينزله الله من الإيمان والقرآن، وذلك شراب لها، كما أن المطر شراب للأرض، والأرض تعطش وتروى، كذلك القلب يعطش إلى ما ينزله الله ويروى به. وهو سبحانه الذي يطعمه هذا الشراب، وهو سبحانه لا يطعمه أحد شيئا، بل هو الذي يعلم ولا يتعلم من غيره شيئا.

وفي مناجاة داود: إني ظمئت إلى ذكرك كما تظمأ الإبل إلى الماء، أو نحو هذا، لبعد الإبل عن الماء وشدة عطشها إليه.

وفي مراسلة يحيى بن معاذ لأبي يزيد لما ذكر أن من الناس من شرب براري قال أبو يزيد: لكن آخر قد سقوه بحور السماوات والأرض، وقد أدلع لسانه من العطش، يقول: هل من مزيد، أو ما يشبه هذا. وقد قال القائل:


شربت الحب كأسا بعد كأس فما فني الشراب وما رويت



ويقال: فلان ريان من العلم، ويقال: هذا الكلام يشفي العليل ويروي الغليل، وهذا الكلام لا يشفي العليل ولا يروي الغليل. وفي حديث مكحول المرسل : "من أخلص لله أربعين يوما تفجرت [ ص: 126 ] ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه". وقال ابن مسعود لأصحابه : "كونوا ينابيع العلم مصابيح الحكمة أحلاس البيوت سرج الليل جدد القلوب أخلاق الثياب، تعرفون في السماء وتخفون على أهل الأرض".

وقد شبه حياة القلوب بعد موتها بحياة الأرض بعد موتها، وذلك بما ينزله عليها، فيسقيها وتحيا به، وشبه ما أنزله على القلوب بالماء الذي ينزله على الأرض، وجعل القلوب كالأودية: واديا كبيرا يسع ماء كثيرا، وواديا صغيرا يسع ماء قليلا، كما قال: أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها . وبين أنه يحتمل السيل زبدا رابيا، وأن هذا مثل ضربه الله للحق والباطل، فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال . فالأرض تشرب ما ينفع وتحفظه، كذلك القلوب تشرب ما ينفع وتحفظه، كما ضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله ومثل ما بعثه الله به من الهدى والعلم كغيث أصاب أرضا، فبعض الأرض قبلت الماء فشربته، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وبعض الأرض حفظته لمن يسقي ويزرع، وبعض الأرض قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ. ثم قال: "فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به من الهدى والعلم، ومثل من لم يرفع بذلك [ ص: 127 ] رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به" . فجعل قبول القلوب بشربها وإمساكها، والأول أعلى، وهو حال من علم وعمل، والثاني حال من حفظ العلم لمن انتفع به. ولهذا قال: "فكانت منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها طائفة أمسكت الماء، فشرب الناس وسقوا وزرعوا". فالماء أثر في الأولى واختلط بها، حتى أخرجت الكلأ والعشب الكثير، وكالثانية لم تشربه لكن أمسكته لغيرها حتى شربه ذلك الغير. وهذه حال من يحفظ العلم ويؤديه إلى من ينتفع به، كما في حديث الحسن - وبعضهم يجعله من مراسيله - قال: "العلم علمان: علم في القلب، وعلم على اللسان، فعلم القلب هو العلم النافع، وعلم اللسان حجة الله على عباده".

وبعض الناس قال: إن الأول مثل الفقهاء، والثاني مثل المحدثين.

التالي السابق


الخدمات العلمية