الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
وإذا نظر الرجل إلى عبده يبيع ويشتري فلم ينهه عن ذلك فهو إذن منه له في التجارة بمنزلة قوله : قد أذنت لك في التجارة ، وهذه مسألتان إحداهما إذا أذن له في نوع خاص من التجارة فإنه يكون مأذونا في التجارات كلها عندنا ، وقال الشافعي رحمه الله : لا يكون مأذونا إلا في ذلك النوع خاصة وهو رواية عن زفر رحمه الله ، وعنه في رواية أخرى قال إن سكت عن النهي عن سائر الأنواع فإن قال : اعمل في البر فهو مأذون في التجارات كلها ، وإن صرح بالنهي عن التصرف في سائر الأنواع فليس له أن يتصرف إلا في النوع الذي أذن له فيه خاصة فالحجة للشافعي أنه يتصرف للمولى بإذنه فلا يملك التصرف إلا فيما أذن له فيه كالوكيل ، والمضارب ، والمستبضع ، والشريك شركة العنان .

وبيان ذلك أن الرق موجب للحجر عليه عن التصرفات ، والرق بعد الإذن قائم كما كان قبله فيكون تصرفه بطريق النيابة عن المولى فيه .

( ألا ترى ) أن ما هو المقصود بالتصرف وهو الملك يحصل للمولى ، وأن العبد بسبب الرق يخرج من أن يكون أهلا للملك الذي هو المقصود فيه يبين أنه ليس بأهل للتصرف بنفسه بخلاف المكاتب فإن بالكتابة عندي يثبت للمكاتب حق ، ويصير بمنزلة الحر يدا ; ولهذا لا يملك المولى إعتاقه عن كفارته ولا يملك الحجر ، وإنما يصير أهلا للتصرف باعتبار ما ثبت له من الحرية يدا ، ثم المأذون عندي يرجع بالعهدة على المولى إلا أنه عين لرجوعه محلا وهو كسبه فلا يملك الرجوع في محل آخر وهكذا مذهبي في الوكيل إذا وكله بأن يشتري ويبيع على أن الربح كله للموكل فإن رجوعه بالعهدة فيما يشتري ويبيع على أن الربح كله للموكل فإن رجوعه بالعهدة فيما يشتري على الموكل دون غيره ويكون هو نائبا عن الموكل في التصرف فكذلك المأذون ، والدليل عليه أنه لو أذن له في تزويج امرأة لا يملك أن يتزوج امرأتين ولو أذن له في نكاح امرأة بعينها لا يملك أن يتزوج غيرها فكذلك في التجارة بل أولى ; لأن مقصود ذلك التصرف يحصل للعبد ومقصود هذا التصرف يحصل للمولى فكذلك إذا أذن له في التجارة لا يملك النكاح وإذا أذن له في النكاح لا يملك التجارة ، ولئن كان الإذن إطلاقا وتمليكا لليد منه كما هو مذهبكم فذلك لا يدل على أنه لا يقبل التخصيص كتقليد القضاء فإنه إطلاق وإثبات للولاية ، ثم يقبل التخصيص ، والإعارة ، والإجارة تمليك المنفعة وإثبات اليد على العين ، ثم يقبل التخصيص بالإذن كذلك وهذا [ ص: 10 ] لأن التخصيص مفيد فمقصود المولى تحصيل الربح وذلك يحصل بتجارته في نوع لكثرة هدايته فيه ، ثم يفوت ذلك بتجارته في نوع آخر لقلة هدايته في ذلك فكان التقييد مفيدا فيما هو المقصود .

وزفر رحمه الله على الرواية الأخرى يقول إنما أثبتنا حكما عاما عند سكوته عن النهي لدلالة العرف وذلك يسقط عند التصريح بالنهي في سائر الأنواع .

( ألا ترى ) أن مطلق الإذن يوجب التعميم في الوقت ، ثم إذا صرح بالحجر عليه بعد أن مضى شهر أو يوم يرتفع ذلك الإذن فهذا مثله .

وحجتنا في ذلك طرق ثلاثة :

أحدها ما بينا أن الإذن في نوع يستدعي الإذن في سائر الأنواع لاتصال بعض التجارات بالبعض ، والمتصرف في البر بما يشتري ذلك البر بالطعام فلا بد من أن يشتري الطعام ليؤدي ما عليه وربما يحتاج إلى بيع البر بالعبيد ، والإماء إذا لم يجد من يشتري ذلك منه بالنقد وإذا كان الإذن في نوع يتعدى إلى سائر أنواع التجارة لاتصال بعض التجارات بالبعض ولأن الإذن في التجارة فك للحجر عنه ، والعبد بعد الإذن متصرف لنفسه لانفكاك الحجر عنه كالمكاتب ، وكما أن في الكتابة لا يعتبر التقييد بنوع خاص فكذلك في الإذن ، وبيان الوصف أن بمطلق الإذن يملك التصرف ، والإنابة لا تحصل بمطلق اللفظ من غير تنصيص على التصرف كما في حق الوكيل ، والدليل عليه أن المأذون لا يرجع بما يلحقه من العهدة على مولاه ، والمتصرف للغير يرجع عليه بما يلحقه من العهدة ، وأنه إذا قضى الدين من خالص ملكه بعد العتق لا يرجع به على المولى ولو كان هو بمنزلة الوكيل لكان يرجع على الموكل بما يؤدي من خالص ملكه كالوكيل ، وإنما يكون رجوع الوكيل فيما يحصل تصرفه إذا بقي ذلك فأما بعد الفوات فيكون رجوعه على الموكل وهنا ، وإن هلك كسبه لم يرجع على المولى بشيء ودل أنه متصرف لنفسه وقد بينا أن بالرق لم يخرج من أن يكون أهلا للتصرف ولا من أن يكون أهلا لثبوت اليد له على كسبه ولكنه ممنوع عن التصرف لحق المولى مع قيام الأهلية فالإذن لإزالة المنع كالكتابة ولا يجوز أن يدعي أن بالكتابة يثبت له حق العتق أو يجعل كالحر يدا ; لأن الكتابة تحتمل الفسخ ، والسبب الموجب لحق العتق متى ثبت لا يحتمل الفسخ كالاستيلاد فثبت أن الكتابة فك الحجر ، والإذن مثله ، ثم فك الحجر عنه بهذين السببين بمنزلة الفك التام الذي يحصل بالعتق ، وذلك لا يختص بنوع دون نوع سواء أطلق أو صرح بالنهي عن سائر الأنواع ; لأن هذا التقييد منه تصرف في غير ملكه فكذلك ههنا .

والثالث : أن تصرف العبد يلاقي محلا هو ملكه ، والمتصرف في ملكه لا يكون نائبا عن [ ص: 11 ] غيره وبيانه أن أول التصرفات بعد الإذن من العبد شراء ; لأنه ما لم يشتر لا يمكنه أن يبيع وهو بالشراء يلتزم الثمن في ذمته وقد بينا أن الذمة مملوكة بمنزلة ذمته فكما أنه يملك التصرف في ذمته بالإقرار على نفسه بالقود فكذلك يكون مالكا للتصرف في ذمته إلا أن الدين لا يجب في ذمته إلا شاغلا مالية رقبته فيحتاج إلى إذن المولى هنا لإسقاط حقه عن مالية الرقبة ، والرضى بصرفها إلى الدين ، وفي هذا لا يفترق الحال بين نوع من التجارة ونوع فتقييده بنوع غير مفيد في حقه فلا يعتبر كما إذا رضي المستأجر ببيع العين من زيد دون عمرو أو رضي الشفيع بيع المشترى من زيد دون عمرو ولو أسلم البائع المبيع إلى المشتري قبل نقد الثمن على أن يتصرف فيه نوعا من التصرف دون نوع لا يعتبر ذلك التقييد ; لأنه وجد من هؤلاء إسقاط حق المبيع فأهل التصرف يكون متصرفا لنفسه فتقييده بنوع دون نوع لا يكون مفيدا وهذا بخلاف النكاح فإن ذلك تصرف مملوك للمولى عليه ; لأن النكاح لا يجوز إلا بولي ، والرق يخرجه عن أن يكون أهلا للولاية فكان هو نائبا عن المولى في النكاح ; ولهذا قلنا المولى يجبره على النكاح فأما هذا التصرف فغير مملوك للمولى عليه فكان الإذن من المولى إسقاطا لحقه لا إنابة العبد منابه في التصرف وقد بينا أنه مع الرق أهل للحكم الأصلي وهو ملك اليد ، وأن ما وراء ذلك من ملك العين يثبت للمولى على سبيل الخلافة عنه وهذا بخلاف تقليد القضاء فالقاضي لا يعمل لنفسه فيما يقضي بل هو نائب عن المسلمين ; ولهذا يرجع بما يلحقه من العهدة في مال المسلمين وكيف يكون عاملا لنفسه وهو فيما يعمل لنفسه لا يصلح أن يكون قاضيا وهذا بخلاف المستعير ، والمستأجر ; لأنه يتصرف في محل هو ملك الغير بإيجاب صاحب الملك له وإيجابه في ملك نفسه يقبل التخصيص فأما العبد فلا يتصرف بإيجاب المولى له فقد بينا أن التصرف غير مملوك للمولى في ذمته فكيف يوجب له مالا يملكه .

التالي السابق


الخدمات العلمية