الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              6697 7114 - حدثنا خلاد ، حدثنا مسعر ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن أبي الشعثاء ، عن حذيفة قال : إنما كان النفاق على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأما اليوم فإنما هو الكفر بعد الإيمان . [فتح: 13 \ 69 ] .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 385 ]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 385 ] ذكر فيه أحاديث :

                                                                                                                                                                                                                              أحدها :

                                                                                                                                                                                                                              حديث نافع : لما خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية جمع ابن عمر - رضي الله عنهما - حشمه وولده فقال : إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : "ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة " . وإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيعة الله ورسوله وإني لا أعلم غدرا (أعظم ) من أن يبايع رجل رجلا على بيع الله ورسوله ، ثم ينصب له القتال ، وإني لا أعلم أحدا منكم خلعه ولا بايع في هذا الأمر إلا كانت الفيصل بيني وبينه .

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها :

                                                                                                                                                                                                                              حديث أبي المنهال قال فيه : حدثنا أحمد بن يونس ، ثنا أبو شهاب -وهو عبد ربه بن نافع الحناط المدائني صاحب الطعام ، اتفقا عليه وعلى عبد ربه بن سعيد بن قيس ، وانفرد مسلم بأبي نعامة عبد ربه السعدي ، وبعبد ربه أبي سعيد الشامي ، عن أبي وراد ، وانفرد أيضا بأبي نعامة العدوي عمرو بن عيسى - عن عوف ، عن أبي المنهال -واسمه سيار بن سلامة التميمي الحنظلي اليربوعي الرياحي ، اتفقا عليه ، وعلى أبي الحكم سيار بن أبي سيار ، واتفقا أيضا على أبي المنهال (عبد الرحمن ) بن مطعم عن ابن عباس والبراء وزيد بن أرقم قال : لما كان ابن زياد ومروان بالشام ، ووثب ابن الزبير بمكة ، ووثب القراء بالبصرة ، فانطلقت مع أبي إلى أبي برزة الأسلمي -واسمه [ ص: 386 ] نضلة بن عبيد - حتى دخلنا عليه في داره -وهو جالس في ظل علية له من قصب - فجلسنا إليه ، فأنشأ أبي يستطعمه الحديث فقال : يا أبا برزة ، ألا ترى ما وقع فيه الناس ؟ فأول شيء سمعته تكلم به : إني أحتسب عند الله أني أصبحت ساخطا على أحياء قريش ، إنكم يا معشر العرب كنتم على الحال الذي علمتم من القلة والذلة والضلالة ، وإن الله أنقذكم بالإسلام وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - حتى بلغ بكم ما ترون ، وهذه الدنيا التي أفسدت بينكم ، إن ذاك الذي بالشأم والله (إن ) يقاتل إلا على الدنيا . وإن ذاك الذي بمكة والله إن يقاتل إلا على الدنيا وإن هؤلاء الذين بين أظهركم ، والله ما يقاتلون إلا على الدنيا .

                                                                                                                                                                                                                              الثالث :

                                                                                                                                                                                                                              حديث أبي وائل ، عن حذيفة بن اليمان قال : إن المنافقين اليوم شر منهم على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، كانوا يومئذ يسرون ، واليوم يجهرون .

                                                                                                                                                                                                                              وعن أبي الشعثاء ، عن حذيفة قال : إنما كان النفاق على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأما اليوم فإنما هو الكفر بعد الإيمان .

                                                                                                                                                                                                                              (الشرح ) :

                                                                                                                                                                                                                              معنى الترجمة : إنما هو في خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية ورجوعهم عن بيعته ، وما قالوا له ، وقالوا بغير حضرته خلاف ما قالوا [ ص: 387 ] بحضرته ، وذلك أن ابن عمر - رضي الله عنهما - بايعه فقال عنده بالطاعة لخلافته ، ثم خشي على بنيه وحشمه النكث مع أهل المدينة حين نكثوا بيعة يزيد ، فجمعهم ووعظهم ، وأخبرهم أن النكث أعظم الغدر ، وأما قول أبي برزة : إني أحتسب عند الله أني أصبحت ساخطا على أحياء قريش ، فوجه موافقته الترجمة : أن هذا قول لم يقله عند مروان بن الحكم حين بايعه ، بل بايع واتبع ثم سخط ذلك لما بعد عنه ، وكأنه أراد منه أن يترك ما (نوزع ) فيه للآخرة ؛ ولا يقاتل عليه ، كما فعل عثمان ، فلم يقاتل من نازعه ، بل ترك ذلك لمن قاتله عليه ، وكما فعل الحسن بن علي - رضي الله عنهما - حين ترك القتال لمعاوية (حين نازعه ) أمر الخلافة ، فسخط أبو برزة من مروان ؛ تمسكه بالخلافة والقتال عليها ، فقد تبين أن قوله لأبي المنهال وابنه بخلاف ما قال لمروان حين بايع معه .

                                                                                                                                                                                                                              فصل :

                                                                                                                                                                                                                              وأما يمينه أن الذي بالشام إن يقاتل إلا على الدنيا وهو عبد الملك فوجهه أنه كان (يريد أن ) يأخذ بسيرة عثمان والحسن ، وإنما يمينه على الذي بمكة يعني ابن الزبير ، وإنه لما وثب ( بمكة ) من بعد أن دخل فيما دخل فيه المسلمون جعله نكثا منه وحرصا على الدنيا ، وهو في هذه أقوى رأيا منه في الأولى ، وكذلك القراء بالبصرة ؛ لأنه كان لا يرى [ ص: 388 ] الفتنة في الإسلام أصلا فكان يرى أن يترك صاحب الأمر حقه لمن نازعه فيه ؛ لأنه مأجور في ذلك ، وممدوح بالإيثار على نفسه ، وكان يريد من المقاتل له ألا يقتحم النار في قيامه ، وتفريقه الجماعة وتشتيت الكلمة ، ولا يكون سببا لسفك الدماء واستباحة الحرم أخذا بقوله - عليه السلام - : "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار " . فلم ير القتال البتة وخشي أن يقول في ابن الزبير شيئا ؛ لأنه كان من العبادلة بمكان ، وما غير عليه في خلافته أنه استأثر بشيء من مال الله .

                                                                                                                                                                                                                              فصل :

                                                                                                                                                                                                                              وأما حديث حذيفة - رضي الله عنه - ، وقوله : إن المنافقين اليوم شر منهم على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأنهم كانوا يسرون قولهم فلا يتعدى شرهم إلى غيرهم ، وأما اليوم فإنهم يجهرون بالنفاق ويعلنون بالخروج عن الجماعة ويورثون بينهم ويحزبونهم أحزابا ، فهم اليوم شر منهم حتى لا (يضرون ) بما يسرونه ، غير أنهم لم يصرحوا بالكفر إنما هو النفث يلقونه من أفواههم ، فكانوا يعرفون به ، قال الحسن : لولا المنافقون ما توحشنا في الطرق ولولاهم ما انتصفنا من عدو .

                                                                                                                                                                                                                              ووجه موافقته للترجمة أن المنافقين بالجهر وإشهار السلاح على الناس هو القول بخلاف ما قالوه حين دخلوا في بيعة من بايعوه من الأئمة ؛ لأنه لا يجوز أن يتخلف عن بيعة من بايعه الجماعة ساعة من الدهر ؛ لأنها ساعة جاهلية ، ولا جاهلية في الإسلام ، وقد قال تعالى : واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا [آل عمران : 103 ] فالتفرق محرم في الإسلام وهو الخروج عن طاعة الأئمة .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 389 ] فصل :

                                                                                                                                                                                                                              وأما قول أبي برزة - رضي الله عنه - واحتسابه وسخطه على أحياء قريش عند الله تعالى فكأنه قال : اللهم إني لا أرضى ما تصنع قريش من التقاتل على الخلافة ، فاعلم ذلك من نيتي ، وإني ساخط ذلك عليهم وأفعالهم واستباحتهم الدماء والأموال ، فأراد أن يحتسب ما يعتقده من إنكار القتال في الإسلام عند الله أجرا وذخرا ، فإنه لم يقدر من التغيير عليهم إلا بالقول والنية التي بها (أجزى ) الله عباده .

                                                                                                                                                                                                                              فصل :

                                                                                                                                                                                                                              الحشم : الخدم ومن يغضب له ، وهم الجماعة اللائذون بخدمته ؛ سموا بذلك لأنهم يغضبون له ، والحشمة الغضب ، وحشمة : بفتح الحاء والشين المعجمة .

                                                                                                                                                                                                                              والفيصل : القاطعة التامة والياء زائدة فيعل من فصل الشيء إذا قطعه .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : (على بيع الله ورسوله ) أي : على شرط ما أمر الله ورسوله من البيعة ، والبيعة : الصفقة من البيع ، وذلك أن من بايع سلطانه فقد أعطاه (الطاعة ) وأخذ منه العطية فأشبهت البيعة الذي فيه المعاوضة من أخذ وعطاء ، وقيل : أصله أن العرب كانت إذا بايعت تصافقت بالأكف عند العقد ، وكذلك كانوا يفعلون إذا تحالفوا فشبهوا معاوضة (الولاة ) المتماسكة بالأيدي وسموها بيعة .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 390 ] فصل :

                                                                                                                                                                                                                              (في ظل علية ) أي : غرفة ، وجمعها : علالي وهي فعيلة ، وأصله عليوة ، وأبدلت الواو ياء ، وأدغمت ؛ لأن هذه الواو إذا سكن ما قبلها فتحت ، كما نسب إلى الدلو دلوي وهي من علوت ، وقال بعضهم : هي علية بالكسر على فعيلة ، يجعلها من المضاعف قال : وليس في الكلام فعلية .

                                                                                                                                                                                                                              فصل :

                                                                                                                                                                                                                              (قوله ) (يستطعمه الحديث ) أي : يستطيبه ويرغب في أن يسمعه منه .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : (إنما كان النفاق على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) أي : إنما دخلوا في الإسلام خوفا ، آمنوا بألسنتهم دون قلوبهم .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : (فأما اليوم فإنما هو الكفر بعد الإيمان ) . يعني : هؤلاء ولدوا في الإسلام وعلى فطرته ، فمن أظهر منهم كفرا فهو مرتد ، ولذلك اختلفت أحكام المنافقين والزنادقة والمرتدين ؛ لأن المنافقين لم يكونوا مسلمين قط إلا بالإسلام ، وهؤلاء ولدوا على فطرة الإسلام وفي الإسلام ، فكانوا عليها حتى أحدثوا ما أحدثوا ، وكان السلف يخشون على أنفسهم النفاق لما لا يكادون ينجون مما لا ينجى منه السر والمؤمن خاش راج .




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية