الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              6570 6971 - حدثنا أبو عاصم ، عن ابن جريج ، عن ابن أبي مليكة ، روى له مسلم ، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " البكر تستأذن" . قلت : إن البكر تستحيي . قال : "إذنها صماتها " . وقال بعض الناس : إن هوي رجل جارية يتيمة أو بكرا ، فأبت فاحتال فجاء بشاهدي زور على أنه تزوجها ، فأدركت فرضيت اليتيمة ، [ ص: 82 ] فقبل القاضي شهادة الزور ، والزوج يعلم ببطلان ذلك ، حل له الوطء . [انظر : 5137 - مسلم : 1420 - فتح: 12 \ 340 ]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ذكر فيه حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ، السالف : " لا تنكح البكر حتى تستأذن ، ولا الثيب حتى تستأمر " . قيل : يا رسول الله ، كيف إذنها ؟ قال : "إذا سكتت " . وقال بعض الناس : إن لم تستأذن البكر ولم تزوج فاحتال رجل فأقام شاهدي زور أنه تزوجها برضاها ، فأثبت القاضي نكاحها والزوج يعلم أن الشهادة باطلة ، فلا بأس أن يطأها ، وهو تزويج صحيح .

                                                                                                                                                                                                                              ثم ساق حديث سفيان ، ثنا يحيى بن سعيد ، عن القاسم ، أن امرأة من ولد جعفر تخوفت أن يزوجها وليها وهي كارهة فأرسلت إلى شيخين من الأنصار : عبد الرحمن ومجمع ابني جارية ، قالا : فلا تخشين ، فإن خنساء بنت خذام أنكحها أبوها وهي كارهة فرد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك . قال سفيان : وأما عبد الرحمن فسمعته يقول ، عن أبيه : إن خنساء .

                                                                                                                                                                                                                              ثم ساق البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - : "لا تنكح الأيم حتى تستأمر ، ولا تنكح البكر حتى تستأذن " . قالوا : كيف إذنها ؟ قال : "أن تسكت " . وقال بعض الناس : إن احتال إنسان بشاهدي زور على تزويج امرأة ثيب بأمرها ، فأثبت القاضي نكاحها إياه والزوج يعلم أنه لم يتزوجها قط ، فإنه يسعه هذا النكاح ، ولا بأس بالمقام له معها .

                                                                                                                                                                                                                              ثم ساق حديث عائشة - رضي الله عنها - : " البكر تستأذن" قلت : إن البكر تستحيي . قال : "إذنها صماتها " . وقال بعض الناس : إن هوي رجل جارية يتيمة ثيبا أو بكرا فأبت فاحتال فجاء بشاهدي زور على أنه تزوجها ، فأدركت ورضيت اليتيمة ، فقبل القاضي شهادة الزور والزوج يعلم ببطلان ذلك ، حل له الوطء .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 83 ] الشرح :

                                                                                                                                                                                                                              لا يحل هذا النكاح للزوج الذي أقام شاهدي زور على رضا المرأة أنه تزوجها عند أحد من العلماء ، وليس حكم القاضي بما ظهر له من عدالة الشاهدين في الظاهر محلا ما حرم الله ؛ لقوله - عليه السلام - : " فإنما أقطع له قطعة من النار " ولتحريم الله أكل أموال الناس بالباطل ، ولا فرق بين أكل المال الحرام ووطء الفرج الحرام في الإثم .

                                                                                                                                                                                                                              قال المهلب : واحتيال أبي حنيفة ساقط ؛ لأمر الشارع بالاستئذان والاستئمار عند النكاح ، ورد نكاح من تزوجت كارهة في حديث خنساء ، وقد قال تعالى : فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن [البقرة : 232 ] ، فاشتراط الله رضاها في النكاح يوجب أنه متى عدم هذا الشرط فيه لم يحل ، وإنما قاس أبو حنيفة مسائل هذا الباب على القاضي إذا حكم بطلاقها بشاهدي زور وهو لا يعلم . أنه يجوز أن يتزوجها من لا يعلم بطلان هذا (الطلاق ) ، ولا تحرم عليه بالإجماع فكذا يجوز أن يتزوجها من علم ولا تحرم عليه .

                                                                                                                                                                                                                              وهذا خطأ في القياس ، وإنما حل تزويجها لمن لا يعلم باطن أمرها ؛ لأنه جهل ما دخل فيه ، وأما الزوج الذي أقام شاهدي الزور فهو عالم بالتحريم متعمد لركوب الإثم فكيف يقاس من جهل شيئا فأتاه بعذر يجهله على من تعمده وأقدم عليه وهو عالم باطنه .

                                                                                                                                                                                                                              ولا خلاف بين العلماء أنه من أقدم على ما لا يحل له فقد أقدم على الحرام البين الذي قاله فيه الشارع : " الحلال بين والحرام بين [ ص: 84 ] وبينهما أمور مشتبهات " ، وليس للشبهة فيه موضع ولا خلاف بين الأمة أن رجلا لو أقام شاهدي زور على ابنته أنها أمته ، وحكم الحاكم بذلك لا يجوز له وطؤها ، فكذلك الذي شهد على نكاحها ، هما في التحريم سواء ، والمسألة التي في آخر الباب لا يقول بها أحد ، وهي خطأ كالمسألتين المتقدمتين .

                                                                                                                                                                                                                              ولا خلاف في الأموال أن الحاكم إذا حكم بها هو في الباطن على خلاف ما حكم به ، لم ينقل حكمه في الباطن ، وإنما ذلك عند أبي حنيفة في الطلاق والنكاح والنسب فإن شهدوا في أمة رجل أنها ابنة آخر ، وحكم بذلك ، ثبت النسب وحرمت عليه وورثت .

                                                                                                                                                                                                                              وذكر في "المعونة" عن أبي حنيفة : إذا شهدوا بزور على الطلاق تصير المرأة مطلقة بحكم الحاكم ، ويجوز لها أن تتزوج ، ولا يجوز لأحد شاهدي الزور أن يتزوجها ، وهو عند مالك زان ؛ لعلمه أنه لم يطلق ، وذكر مسألة النكاح المتقدمة ، وزاد عنه : إذا شهد له شاهد الزور على ذات محرم أنها زوجته أن الحكم لا ينفذ في الباطن ولا تكون زوجته ، وكذلك إذا أقدم شاهدا زور في دعوى قال : فيحكم الحاكم له ، فإنه لا ينفذ ، وفرقوا بين الموضعين فإن كل موضع جاز أن يكون للحاكم ولاية في ابتداء فعله ، نفذ حكمه فيه ظاهرا وباطنا ، وكل موضع لا ولاية له في ابتداء فعله لم ينفذ ظاهرا دون الباطن ، كان للحاكم ولاية في عقد النكاح ، وفي أن يطلق على غيره ، ولا ولاية له في تزويج ذوات المحارم ، ولا في نقل الأموال ، فكذلك لو ادعى رجل أنه قتل وليا له ، وأقام شاهدي زور فحكم [ ص: 85 ] الحاكم بالقود لم يكن لمن حكم له أن يقتل ؛ لأن الحاكم ليس له أن يقتدي القتل قال : ودليلنا قوله تعالى : والمحصنات من النساء [النساء : 24 ] الآية . فحرم المحصنة ، وهي التي لها زوج إلا إن ملك الكوافر بالسبي ، وعند المخالف : أن التي لها زوج تحل بحكم الحاكم بشهادة زور بطلاقها .

                                                                                                                                                                                                                              والحديث السالف : "إنما أنا بشر . . " إلى آخره ، صريح في أن حكمه بما ليس بجائز للمحكوم له لا يحل له ، وبالقياس على المال وغيره كما سلف ، ثم الحديث عام في قوله : "فلا يأخذ منه شيئا" سواء كانت زوجة أخيه أو ماله .

                                                                                                                                                                                                                              قال الشافعي : ولو كان حكم الحاكم يحل الأمور عما هي عليه ، لكان حكم الشارع أولى .

                                                                                                                                                                                                                              وكذا قال سحنون عند ابنه .

                                                                                                                                                                                                                              فصل :

                                                                                                                                                                                                                              قوله في حديث خنساء : ( فلا تخشين ) . صوابه : بكسر الياء وتشديد النون ؛ لأنه فعل مبني على النون المشددة ، وإن جعلته للمخاطبة فيكون غير مستقيم في الإعراب إذ لم تحذف النون منه في النهي .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 86 ] فصل :

                                                                                                                                                                                                                              (قوله ) : ( فأدركت ) . أي : بلغت ، وقوله قبله : (وإن هوي ) . هو بكسر الواو على وزن فعل وعلم وحذر .




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية