الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              1966 باب كراهية سرد الصيام

                                                                                                                              وقال النووي : ( باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به، أو فوت به حقا، أو لم يفطر " العيدين والتشريق ". وبيان تفضيل صوم "يوم "، وإفطار "يوم " ).

                                                                                                                              [ ص: 152 ] حديث الباب

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم \ النووي ص 44 ج 8 المطبعة المصرية

                                                                                                                              [عن عبد الله بن عمرو (بن العاص ) رضي الله عنهما، قال: بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أني أصوم (أسرد ). وأصلي الليل. فإما أرسل إلي (وإما لقيته ) فقال: "ألم أخبر أنك تصوم ولا تفطر. وتصلي الليل؟ فلا تفعل. فإن لعينك حظا، ولنفسك حظا، ولأهلك حظا. فصم وأفطر، وصل ونم، وصم من كل عشرة أيام يوما. ولك أجر تسعة. " قال: إني أجدني أقوى من ذلك يا نبي الله! قال: "فصم صيام (داود ) عليه السلام". قال: وكيف كان (داود ) يصوم يا نبي الله؟ قال: "كان يصوم يوما ويفطر يوما، ولا يفر إذا لاقى. " قال: من لي بهذه يا نبي الله؟ (قال عطاء: فلا أدري كيف ذكر صيام الأبد؟ ) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا صام من صام الأبد، لا صام من صام الأبد، لا صام من صام الأبد. " ]

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              (الشرح)

                                                                                                                              ( عن عبد الله بن عمرو بن العاص، (رضي الله عنهما ) قال: بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أني (أصوم: أسرد ) وأصلي الليل ؛ فإما أرسل إلي ( وإما [ ص: 153 ] لقيته ) فقال: " ألم أخبر أنك تصوم ولا تفطر، وتصلي الليل ؟ فلا تفعل. فإن لعينك حظا، ولنفسك حظا، ولأهلك حظا " ).

                                                                                                                              وفي رواية أخرى " فإن لزوجك عليك حقا، ولزورك عليك حقا، ولجسدك عليك حقا ".

                                                                                                                              وفي رواية أخرى: " وإن لولدك عليك حقا".

                                                                                                                              ("فصم وأفطر، وصل ونم، وصم من كل عشرة أيام (يوما ). ولك أجر تسعة ". قال: إني أجدني أقوى من ذلك يا نبي الله ! قال: "فصم صيام ( داود ) عليه السلام" قال: وكيف كان (داود ) يصوم يا نبي الله ؟ قال: " كان يصوم يوما، ويفطر يوما، ولا يفر إذا لاقى " قال: من لي بهذه ؟ ) أي: هذه الخصلة الأخيرة، وهي ( عدم الفرار ). صعبة علي كيف لي بتحصيلها. ( يا نبي الله ؟ قال عطاء: فلا أدري كيف ذكر صيام الأبد ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا صام من صام الأبد. لا صام من صام الأبد " ). هكذا هو في نسخة ( المختصر ).

                                                                                                                              وفي أكثر نسخ ( مسلم ): مكرر ثلاث مرات.

                                                                                                                              ( وفيه ): النهي عن صيام الدهر، وإليه ذهب أهل الظاهر. نظرا لظاهر هذا الحديث، وما في معناه.

                                                                                                                              وقد جمع ( مسلم ) طرقها فأتقنها.

                                                                                                                              [ ص: 154 ] وذهب جماهير العلماء إلى جوازه، إذا لم يصم الأيام المنهي عنها.

                                                                                                                              وهي: ( العيدان، والتشريق ).

                                                                                                                              وقالت الشافعية باستحبابه، بشرط أن لا يلحقه ضرر ولا يفوت حقا. وإلا فمكروه.

                                                                                                                              وأجابوا عن حديث الباب: بأنه محمول على حقيقته، بأن يصوم معه الأيام المنهي عنها.

                                                                                                                              وقيل: معنى (لا صام )، أنه لا يجد من مشقته ما يجدها غيره. فيكون خبرا لا دعاء.

                                                                                                                              هذا حاصل ما ذكره النووي .

                                                                                                                              والحديث يرد عليهم. وكل ما أجابوا به عنه أجنبي عن المقام، أو تكلف.

                                                                                                                              وقد تقدم الكلام على هذا الصيام فراجعه.

                                                                                                                              قال في ( السيل الجرار ): حديث "لا صام من صام الأبد" في الصحيحين.

                                                                                                                              وكذلك حديث أبي قتادة، عند مسلم وغيره: ( قال: قيل: يا رسول الله ! كيف بمن صام الدهر ؟ قال: "لا صام ولا أفطر ". أو "لم يصم ولم يفطر " ) ؛ معناهما: أنه لما خالف الهدي النبوي، الذي رغب فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان بمنزلة: ( من لم يصم صوما مشروعا يؤجر عليه. ولا أفطر فطرا ينتفع به ).

                                                                                                                              [ ص: 155 ] ويؤيد أن هذا المعنى هو المراد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لابن عمرو - وقد كان أراد أن يصوم الدهر - "صم من كل شهر ثلاثة أيام " الحديث.

                                                                                                                              وهو في الصحيحين وغيرهما.

                                                                                                                              وفي حديث الثلاثة: " أما أنا فأصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وآتي النساء. فمن رغب عن سنتي فليس مني ".

                                                                                                                              فهذا الحديث الصحيح، يدل على أن صيام الدهر، من الرغوب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فاستحق فاعله ما رتبه عليه من الوعيد.

                                                                                                                              وقد أخرج أحمد، وأبو داود، وابن ماجه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل الذي أخبره أنه يصوم الدهر: "من أمرك أن تعذب نفسك ؟" ).

                                                                                                                              ومع هذا، فقد ورد الوعيد على صوم الدهر ؛ فأخرج أحمد، وابن حبان، وابن خزيمة، وابن أبي شيبة، و البيهقي ؛ ( عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من صام الدهر ضيقت عليه جهنم هكذا" وقبض كفه ).

                                                                                                                              [ ص: 156 ] ولفظ ابن حبان: ( وعقد تسعين ).

                                                                                                                              وأخرجه أيضا البزار، والطبراني. قال في ( مجمع الزوائد ): ورجاله رجال الصحيح.

                                                                                                                              فهذا وعيد ظاهر، وتأويله ما يخالف هذا المعنى تعسف وتكلف.

                                                                                                                              والعجب: ذهاب الجمهور إلى استحباب صوم الدهر. كما حكاه عنهم ابن حجر في ( الفتح ). وهو مخالف للهدي النبوي.

                                                                                                                              وهو أيضا: أمر لم يكن عليه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد قال فيما صح عنه في الصحيحين وغيرهما: " كل أمر ليس عليه أمرنا، فهو رد ".

                                                                                                                              وهو أيضا: من التقشير والتشديد، المخالف لما استقرت عليه هذه الشريعة المطهرة.

                                                                                                                              قال تعالى: يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر .

                                                                                                                              وقال صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: "يسروا ولا تعسروا ". وقال: "لن يشاد الدين أحد إلا غلبه ".

                                                                                                                              وقال: " أمرت بالشريعة السمحة السهلة البيضاء".

                                                                                                                              فالحاصل: أن صوم الدهر، إذا لم يكن محرما تحريما بحتا. فأقل أحواله: أن يكون مكروها، كراهة شديدة.

                                                                                                                              هذا لمن لا يضعف بهذا الصوم عن شيء من الواجبات.

                                                                                                                              [ ص: 157 ] أما إذا كان يضعف به عن بعض الواجبات الشرعية، فلا شك في تحريمه من هذه الحيثية بمجردها، من غير نظر إلى ما قدمنا من الأدلة.

                                                                                                                              انتهى كلامه الشريف.

                                                                                                                              قال النووي : وفي الحديث بيان رفقه صلى الله عليه وسلم بأمته، وشفقته عليهم وإرشادهم إلى مصالحهم.

                                                                                                                              وحثهم على ما يطيقون الدوام عليه.

                                                                                                                              ونهيهم عن التعمق والإكثار من العبادات، التي يخاف عليهم الملل بسببها، أو تركها، أو ترك بعضها.

                                                                                                                              وقد بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله في حديث آخر:

                                                                                                                              " "عليكم من الأعمال ما تطيقون. فإن الله لا يمل حتى تملوا ".

                                                                                                                              وبقوله في هذا الباب: " لا تكن بمثل فلان، كان يقوم الليل، فترك قيام الليل ".

                                                                                                                              وفي الحديث الآخر: "أحب العمل إليه، ما داوم صاحبه عليه ".

                                                                                                                              وقد ذم الله قوما أكثروا العبادة، ثم فرطوا فيها، فقال تعالى: ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها .

                                                                                                                              [ ص: 158 ]



                                                                                                                              الخدمات العلمية