الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            الفصل الثامن

                                                                                                                                                                                                                                            في تفسير قوله : صراط الذين أنعمت عليهم ، وفيه فوائد

                                                                                                                                                                                                                                            الفائدة الأولى : في حد النعمة ، وقد اختلف فيها ، فمنهم من قال : إنها عبارة عن المنفعة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير ، ومنهم من يقول : المنفعة الحسنة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير ، قالوا وإنما زدنا هذا القيد لأن النعمة يستحق بها الشكر ، وإذا كانت قبيحة لا يستحق بها الشكر ، والحق أن هذا القيد غير معتبر ، لأنه يجوز أن يستحق الشكر بالإحسان وإن كان فعله محظورا ، لأن جهة استحقاق الشكر غير جهة الذنب والعقاب ، فأي امتناع في اجتماعهما ؟ ألا ترى أن الفاسق يستحق بإنعامه الشكر ، والذم بمعصية الله ، فلم لا يجوز أن يكون الأمر ههنا كذلك .

                                                                                                                                                                                                                                            ولنرجع إلى تفسير الحد المذكور فنقول : أما قولنا : " المنفعة " فلأن المضرة المحضة لا تكون نعمة ، وقولنا : " المفعولة على جهة الإحسان " لأنه لو كان نفعا حقا وقصد الفاعل به نفع نفسه لا نفع المفعول به لا يكون نعمة ، وذلك كمن أحسن إلى جاريته ليربح عليها .

                                                                                                                                                                                                                                            إذا عرفت حد النعمة فيتفرع عليه فروع :

                                                                                                                                                                                                                                            الفرع الأول : اعلم أن كل ما يصل إلى الخلق من النفع ودفع الضرر فهو من الله تعالى على ما قال تعالى : ( وما بكم من نعمة فمن الله ) [ النحل : 53 ] ثم إن النعمة على ثلاثة أقسام :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : نعمة تفرد الله بإيجادها ، نحو أن خلق ورزق .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : نعمة وصلت من جهة غير الله في ظاهر الأمر ، وفي الحقيقة فهي أيضا إنما وصلت من الله تعالى ، وذلك لأنه تعالى هو الخالق لتلك النعمة ، والخالق لذلك المنعم ، والخالق لداعية الإنعام بتلك النعمة في قلب ذلك المنعم ، إلا أنه تعالى لما أجرى تلك النعمة على يد ذلك العبد كان ذلك العبد مشكورا ، ولكن المشكور في الحقيقة هو الله تعالى ولهذا قال : ( أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير ) [ لقمان : 14 ] فبدأ بنفسه تنبيها على أن إنعام الخلق لا يتم إلا بإنعام الله .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : نعم وصلت من الله إلينا بسبب طاعتنا ، وهي أيضا من الله تعالى ؛ لأنه لولا أن الله سبحانه وتعالى وفقنا للطاعات وأعاننا عليها وهدانا إليها وأزاح الأعذار عنا وإلا لما وصلنا إلى شيء منها ، فظهر بهذا التقرير أن جميع النعم في الحقيقة من الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                            الفرع الثاني : أن أول نعم الله على العبيد هو أن خلقهم أحياء ، ويدل عليه العقل والنقل ، أما العقل فهو أن الشيء لا يكون نعمة إلا إذا كان بحيث يمكن الانتفاع به ، ولا يمكن الانتفاع به إلا عند حصول [ ص: 209 ] الحياة ، فإن الجماد والميت لا يمكنه أن ينتفع بشيء ، فثبت أن أصل جميع النعم هو الحياة ، وأما النقل فهو أنه تعالى قال : ( كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ) [ البقرة : 28 ] ثم قال عقيبه : ( هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ) [ البقرة : 29 ] فبدأ بذكر الحياة وثنى بذكر الأشياء التي ينتفع بها ، وذلك يدل على أن أصل جميع النعم هو الحياة .

                                                                                                                                                                                                                                            الفرع الثالث : اختلفوا في أنه هل لله تعالى نعمة على الكافر أم لا ؟ فقال بعض أصحابنا : ليس لله تعالى على الكافر نعمة ، وقالت المعتزلة : لله على الكافر نعمة دينية ونعمة دنيوية . واحتج الأصحاب على صحة قولهم بالقرآن والمعقول : أما القرآن فآيات . إحداها : قوله تعالى : ( صراط الذين أنعمت عليهم ) وذلك لأنه لو كان لله على الكافر نعمة لكانوا داخلين تحت قوله تعالى : ( أنعمت عليهم ) ولو كان ذلك لكان قوله : ( اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم ) طلبا لصراط الكفار ، وذلك باطل ، فثبت بهذه الآية أنه ليس لله نعمة على الكفار ، فإن قالوا : إن قوله " الصراط " يدفع ذلك ، قلنا : إن قوله : ( صراط الذين أنعمت عليهم ) بدل من قوله : ( الصراط المستقيم ) فكان التقدير اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم ، وحينئذ يعود المحذور المذكور .

                                                                                                                                                                                                                                            والآية الثانية : قوله تعالى : ( ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ) [ آل عمران : 178 ] وأما المعقول فهو أن نعم الدنيا في مقابلة عذاب الآخرة على الدوام قليلة كالقطرة في البحر ، ومثل هذا لا يكون نعمة ، بدليل أن من جعل السم في الحلواء لم يعد النفع الحاصل منه نعمة لأجل أن ذلك النفع حقير في مقابلة ذلك الضرر الكثير ، فكذا ههنا .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما الذين قالوا إن لله على الكافر نعما كثيرة فقد احتجوا بآيات :

                                                                                                                                                                                                                                            إحداها : قوله تعالى : ( ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء ) [ البقرة 21 - 22 ] فنبه على أنه يجب على الكل طاعة الله لمكان هذه النعم العظيمة .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : قوله : ( كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ) [ البقرة : 28 ] ذكر ذلك في معرض الامتنان وشرح النعم .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : قوله تعالى : ( يابني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم ) [ البقرة : 40 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : قوله تعالى : ( وقليل من عبادي الشكور ) [ سبأ : 13 ] وقول إبليس : ( ولا تجد أكثرهم شاكرين ) [ الأعراف : 17 ] ولو لم تحصل النعم لم يلزم الشكر ، ولم يلزم من عدم إقدامهم على الشكر محذور ؛ لأن الشكر لا يمكن إلا عند حصول النعمة .

                                                                                                                                                                                                                                            الفائدة الثانية : قوله : ( اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم ) يدل على إمامة أبي بكر رضي الله عنه ؛ لأنا ذكرنا أن تقدير الآية : اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم والله تعالى قد بين في آية أخرى أن الذين أنعم الله عليهم من هم فقال : ( فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين ) الآية [ النساء : 69 ] ولا شك أن رأس الصديقين ورئيسهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، فكان معنى الآية أن الله أمرنا أن نطلب الهداية التي كان عليها أبو بكر الصديق وسائر الصديقين ، ولو كان أبو بكر ظالما لما جاز الاقتداء به ، فثبت بما ذكرناه دلالة هذه الآية على إمامة أبي بكر رضي الله عنه .

                                                                                                                                                                                                                                            الفائدة الثالثة : قوله ( أنعمت عليهم ) يتناول كل من كان لله عليه نعمة وهذه النعمة إما أن يكون المراد منها نعمة الدنيا أو نعمة الدين ، ولما بطل الأول ثبت أن المراد منه نعمة الدين ، فنقول : كل نعمة [ ص: 210 ] دينية سوى الإيمان فهي مشروطة بحصول الإيمان ، وأما النعمة التي هي الإيمان فيمكن حصولها خاليا عن سائر النعم الدينية ، وهذا يدل على أن المراد من قوله : ( أنعمت عليهم ) هو نعمة الإيمان ، فرجع حاصل القول في قوله اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم أنه طلب لنعمة الإيمان ، وإذا ثبت هذا الأصل فنقول : يتفرع عليه أحكام :

                                                                                                                                                                                                                                            الحكم الأول : أنه لما ثبت أن المراد من هذه النعمة نعمة الإيمان ، ولفظ الآية صريح في أن الله تعالى هو المنعم بهذه النعمة ؛ ثبت أن خالق الإيمان والمعطي للإيمان هو الله تعالى ، وذلك يدل على فساد قول المعتزلة ، ولأن الإيمان أعظم النعم ، فلو كان فاعله هو العبد لكان إنعام العبد أشرف وأعلى من إنعام الله ، ولو كان كذلك لما حسن من الله أن يذكر إنعامه في معرض التعظيم .

                                                                                                                                                                                                                                            الحكم الثاني : يجب أن لا يبقى المؤمن مخلدا في النار ، لأن قوله : ( أنعمت عليهم ) مذكور في معرض التعظيم لهذا الإنعام ، ولو لم يكن له أثر في دفع العقاب المؤبد لكان قليل الفائدة فما كان يحسن من الله تعالى ذكره في معرض التعظيم .

                                                                                                                                                                                                                                            الحكم الثالث : دلت الآية على أنه لا يجب على الله رعاية الصلاح والأصلح في الدين ، لأنه لو كان الإرشاد واجبا على الله لم يكن ذلك إنعاما ؛ لأن أداء الواجب لا يكون إنعاما ، وحيث سماه الله تعالى إنعاما علمنا أنه غير واجب .

                                                                                                                                                                                                                                            الحكم الرابع : لا يجوز أن يكون المراد بالإنعام هو أن الله تعالى أقدر المكلف عليه وأرشده إليه وأزاح أعذاره وعلله عنه ؛ لأن كل ذلك حاصل في حق الكفار ، فلما خص الله تعالى بعض المكلفين بهذا الإنعام مع أن هذا الإقدار وإزاحة العلل عام في حق الكل علمنا أن المراد من الإنعام ليس هو الإقدار عليه وإزاحة الموانع عنه .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية