الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        في حقيقة القبض .

                                                                                                                                                                        والقول الجملي فيه ، أن الرجوع فيما يكون قبضا إلى العادة . ويختلف بحسب اختلاف المال . وتفصيله أن المبيع نوعان .



                                                                                                                                                                        [ ص: 517 ] [ النوع ] الأول : ما لا يعتبر فيه تقدير ، إما لعدم إمكانه ، وإما مع إمكانه ، فينظر ، إن كان مما لا ينقل كالأرض والدور ، فقبضه بالتخلية بينه وبين المشتري ، وتمكينه من اليد والتصرف بتسليم المفتاح إليه . ولا يعتبر دخوله وتصرفه فيه ، ويشترط كونه فارغا من أمتعة البائع ، فلو باع دارا فيها أمتعة للبائع ، توقف التسليم على تفريغها ، وكذا لو باع سفينة مشحونة بالقماش .

                                                                                                                                                                        قلت : وقد حكى الرافعي بعد هذا وجها عند بيع الأرض المزروعة في باب الألفاظ المطلقة في البيع ، أنه لا يصح بيع الدار المشحونة ، وأن إمام الحرمين ادعى أنه ظاهر المذهب . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        ولو جمع البائع متاعه في بيت من الدار ، وخلى بين المشتري وبين الدار ، حصل القبض فيما عدا ذلك البيت . وفي اشتراط حضور المتبايعين عند المبيع ، ثلاثة أوجه

                                                                                                                                                                        أحدها : يشترط ، فإن حضرا عنده فقال البائع للمشتري : دونك هذا ولا مانع ، حصل القبض ، وإلا فلا . والثاني : يشترط حضور المشتري دون البائع . وأصحها : لا يشترط حضور واحد منهما ; لأن ذلك يشق . فعلى هذا هل يشترط زمان إمكان المضي ؟ وجهان .

                                                                                                                                                                        أصحهما : نعم . وفي معنى الأرض الشجر الثابت ، والثمرة المبيعة على الشجر قبل أوان الجداد . وإن كان المبيع من المنقولات ، فالمذهب والمشهور : أنه لا يكفي فيه التخلية ، بل يشترط النقل والتحريك . وفي قول رواه حرملة : يكفي . وفي وجه : يكفي لنقل الضمان إلى المشتري ، ولا يكفي لجواز تصرفه . فعلى المذهب : يأمر العبد بالانتقال من موضعه ، ويسوق الدابة أو يقودها .

                                                                                                                                                                        قلت : ولا يكفي استعماله [ الدابة ] وركوبها بلا نقل ، وكذا وطء الجارية على الصحيح . ذكره في البيان . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        [ ص: 518 ] وإذا كان المبيع في موضع لا يختص بالبائع ، كموات ومسجد وشارع ، أو في موضع يختص بالمشتري ، فالتحويل إلى مكان منه كاف . وإن كان في بقعة مخصوصة بالبائع ، فالنقل من زاوية منه إلى زاوية ، أو من بيت من داره إلى بيت بغير إذن البائع لا يكفي لجواز التصرف ، ويكفي لدخوله في ضمانه . وإن نقل بإذنه ، حصل القبض ، وكأنه استعار ما نقل إليه . ولو اشترى الدار مع أمتعة فيها صفقة واحدة ، فخلى البائع بينها وبينه ، حصل القبض في الدار . وفي الأمتعة وجهان .

                                                                                                                                                                        أصحهما : يشترط نقلها كما لو أفردت . والثاني : يحصل فيها القبض تبعا ، وبه قطع الماوردي وزاد فقال : لو اشترى صبرة ولم ينقلها حتى اشترى الأرض التي عليها الصبرة ، وخلى البائع بينه وبينها ، حصل القبض في الصبرة .

                                                                                                                                                                        قلت : قال : ولو استأجرها ، فوجهان . الصحيح : أنه ليس قبضا . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        لو لم يتفقا على القبض ، فجاء البائع بالمبيع ، فامتنع المشتري من قبضه ، أجبره الحاكم عليه . فإن أصر ، أمر الحاكم من يقبضه عنه ، كما لو كان غائبا .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        لو جاء البائع بالمبيع ، فقال المشتري : ضعه ، فوضعه بين يديه ، حصل القبض ، وإن وضعه بين يديه ولم يقل المشتري شيئا ، أو قال : لا أريده ، [ ص: 519 ] فوجهان . أحدهما : لا يحصل القبض ، كما لا يحصل الإيداع . وأصحهما : يحصل ، لوجوب التسليم ، كما لو وضع

                                                                                                                                                                        [ الغاصب ] المغصوب بين يدي المالك ، يبرأ من الضمان . فعلى هذا ، للمشتري التصرف فيه ، ولو تلف ، فمن ضمانه . لكن لو خرج مستحقا ولم نجز إلا وضعه ، فليس للمستحق مطالبة المشتري بالضمان ; لأن هذا القدر لا يكفي لضمان الغصب . ولو وضع المديون الدين بين يدي مستحقه ، ففي حصول التسليم خلاف مرتب على المبيع ، وأولى بعدم الحصول ، لعدم تعين الدين فيه .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        للمشتري الاستقلال بنقل المبيع ، إن كان دفع الثمن ، أو كان مؤجلا ، كما للمرأة قبض الصداق بغير إذن الزوج إذا سلمت نفسها ، وإلا فلا ، وعليه الرد ; لأن البائع يستحق الحبس لاستيفاء الثمن ، ولا ينفذ تصرفه فيه ، لكن يدخل في ضمانه .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        دفع ظرفا إلى البائع وقال : اجعل المبيع فيه ، ففعل ، لا يحصل التسليم ، إذ لم يوجد من المشتري قبض ، والظرف غير مضمون على البائع ؛ لأنه استعمله في ملك المشتري بإذنه . وفي مثله في السلم ، يكون الظرف مضمونا على المسلم إليه ؛ لأنه استعمله في ملك نفسه . ولو قال للبائع : أعرني ظرفك ، واجعل المبيع فيه ، ففعل ، لا يصير المشتري قابضا .

                                                                                                                                                                        النوع الثاني : ما يعتبر فيه تقدير ، بأن اشترى ثوبا أو أرضا مذارعة ، أو متاعا موازنة ، أو صبرة مكايلة ، أو معدودا بالعدد ، فلا يكفي للقبض ما سبق في [ ص: 520 ] النوع الأول ، بل لا بد مع ذلك من الذرع ، أو الوزن ، أو الكيل ، أو العد . وكذا لو أسلم في آصع طعام ، أو أرطال منه ، يشترط في قبضه الكيل والوزن . فلو قبض جزافا ما اشتراه مكايلة ، دخل المقبوض في ضمانه . وأما تصرفه فيه بالبيع ونحوه ، فإن باع الجميع ، لم يصح ؛ لأنه قد يزيد على المستحق . فإن باع ما يتيقن أنه له ، لم يصح أيضا على الصحيح الذي قاله الجمهور . وقبض ما اشتراه كيلا بالوزن ، أو وزنا بالكيل ، كقبضه جزافا .

                                                                                                                                                                        ولو قال البائع : خذه ، فإنه كذا ، فأخذه مصدقا له ، فالقبض فاسد أيضا حتى يقع اكتيال صحيح . فإن زاد ، رد الزيادة . وأن نقص أخذ التمام . فلو تلف المقبوض ، فزعم الدافع أنه [ كان ] قدر حقه أو أكثر ، وزعم القابض أنه كان دون حقه أو قدره ، فالقول قول القابض . فلو أقر بجريان الكيل ، لم يسمع منه خلافه . وللمبيع مكايلة صور . منها : قوله : بعتك هذه الصبرة كل صاع بدرهم . ومنها : بعتكها على أنها عشرة آصع . ومنها : بعتك عشرة آصع منها ، وهما يعلمان صيعانها ، أو لا يعلمان إذا جوزنا ذلك .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        ليس على البائع الرضا بكيل المشتري ، ولا على المشتري الرضا بكيل البائع ، بل يتفقان على كيال ، وإن لم يتراضيا ، نصب الحاكم أمينا يتولاه ، قاله في " الحاوي " .

                                                                                                                                                                        [ ص: 521 ] فرع .

                                                                                                                                                                        مؤنة الكيل الذي يفتقر إليه القبض على البائع ، كمؤنة إحضار المبيع الغائب ، ومؤنة وزن الثمن على المشتري ، لتوقف التسليم عليه . ومؤنة نقد الثمن هل على البائع ، أو المشتري ؟ وجهان .

                                                                                                                                                                        قلت : ينبغي أن يكون الأصح أنها على البائع . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        لو كان لزيد على عمرو طعام سلما ، ولآخر مثله على زيد ، فأراد زيد أداء ما عليه مما له على عمرو ، فقال لغريمه : اذهب إلى عمرو واقبض لنفسك ما لي عليه ، فقبضه ، فهو فاسد ، وكذا لو قال : احضر معي لأكتاله منه لك ، ففعل . وإذا فسد القبض ، فالمقبوض مضمون على القابض . وهل تبرأ ذمة عمرو من حق زيد ؟ وجهان .

                                                                                                                                                                        أصحهما : نعم . فإن قلنا : لا تبرأ ، فعلى القابض رد المقبوض إلى عمرو . ولو قال زيد : اذهب فاقبضه لي ، ثم اقبضه مني لنفسك بذلك الكيل ، أو قال : احضر معي لأقبضه لنفسي ، ثم تأخذه بذلك الكيل ، ففعل ، فقبضه لزيد في الصورة الأولى ، وقبض زيد لنفسه في الثانية ، صحيحان ، وتبرأ ذمة عمرو من حق زيد ، والقبض الآخر فاسد ، والمقبوض مضمون عليه . وفي وجه : يصح قبضه لنفسه في الصورة الأولى . ولو اكتال زيد وقبضه لنفسه ، ثم كاله على مشتري وأقبضه ، فقد جرى الصاعان وصح القبضان . فلو زاد حين كاله ثانيا أو نقص ، فالزيادة لزيد ، والنقص عليه إن كان قدرا يقع بين الكيلين . فإن كان أكثر ، علمنا أن الكيل الأول غلط ، فيرد زيد الزيادة ، ويرجع بالنقصان . [ ص: 522 ] ولو أن زيدا لما اكتاله لنفسه لم يخرجه من المكيال ، وسلمه كذلك إلى مشتريه ، فوجهان . أحدهما : لا يصح القبض الثاني حتى يخرجه ويبتدئ كيلا . وأصحهما عند الأكثرين : أن استدامته في المكيال ، كابتداء الكيل . وهذه الصورة كما تجري في ديني السلم تجري فيما لو كان أحدهما مستحقا بالسلم ، والآخر بقرض أو إتلاف .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        للمشتري أن يوكل في القبض ، وللبائع أن يوكل في الإقباض ، ويشترط فيه أمران .

                                                                                                                                                                        أحدهما : أن لا يوكل المشتري من يده يد البائع ، كعبده ، ومستولدته ، ولا بأس بتوكيل أبيه وابنه ومكاتبه . وفي توكيله عبده المأذون له ، وجهان .

                                                                                                                                                                        أصحهما : لا يجوز . ولو قال للبائع : وكل من يقبض لي منك ، ففعل ، جاز ، ويكون وكيلا للمشتري . وكذا لو وكل البائع بأن يأمر من يشتري منه للموكل .

                                                                                                                                                                        الأمر الثاني : أن لا يكون القابض والمقبض واحدا ، فلا يجوز أن يوكل البائع رجلا بالإقباض ، ويوكله المشتري بالقبض . كما لا يجوز أن يوكله هذا بالبيع وذاك بالشراء . ولو كان عليه طعام أو غيره من سلم أو غيره ، فدفع إلى المستحق دراهم ، وقال : اشتر بها مثل ما تستحقه لي ، واقبضه لي ، ثم اقبضه لنفسك ، ففعل ، صح الشراء والقبض للموكل ، ولا يصح قبضه لنفسه ، لاتحاد القابض والمقبض ، ولامتناع كونه وكيلا لغيره في حق نفسه .

                                                                                                                                                                        وفي وجه ضعيف : يصح قبضه لنفسه ، وإنما يمتنع قبضه من نفسه لغيره . ولو قال : اشتر بهذه الدراهم لي ، واقبضه لنفسك ، ففعل ، صح الشراء ، ولم يصح قبضه لنفسه ، ويكون [ ص: 523 ] المقبوض مضمونا عليه . وهل تبرأ ذمة الدافع من حق الموكل ؟ فيه الوجهان السابقان . ولو قال : اشتر لنفسك ، فالتوكيل فاسد ، وتكون الدراهم أمانة في يده ؛ لأنه لم يقبضها ليملكها . فإن اشترى في الذمة ، وقع عنه وأدى الثمن من ماله . وإن اشترى بعينها ، فهو باطل على الصحيح . ولو قال لمستحق الحنطة : اكتل حقك من الصبرة ، لم يصح على الأصح ; لأن الكيل أحد ركني القبض ، وقد صار نائبا فيه من جهة البائع ، متأصلا لنفسه .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        يستثنى عن الشرط الثاني ، ما إذا اشترى الأب لابنه الصغير من مال نفسه ، أو لنفسه من مال الصغير ، فإنه يتولى طرفي القبض ، كما يتولى طرفي البيع . وفي احتياجه إلى النقل في المنقول ، وجهان .

                                                                                                                                                                        أصحهما : يحتاج ، كما يحتاج إلى الكيل إذا باع كيلا .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        يستثنى عن صورة القبض المذكور ، إتلاف المشتري المبيع ، فإنه قبض كما سبق .

                                                                                                                                                                        قلت : ومما يستثنى أيضا ، إذا كان المبيع خفيفا يتناول باليد ، فقبضه بالتناول واحتواء اليد عليه ، كذا قاله المحاملي وصاحب " التنبيه " وغيرهم ؛ لأنه يعد قبضا . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        [ ص: 524 ] فرع

                                                                                                                                                                        قبض الجزء الشائع ، إنما يحصل بتسليم الجميع ، ويكون ما عدا المبيع أمانة في يده ، ولو طلب القسمة قبل القبض ، قال في " التتمة " : يجاب إليها ، لأنا إن قلنا : القسمة إفراز ، فظاهر . وإن قلنا : بيع ، فالرضا غير معتبر فيه ، فإن الشريك يجبر عليه . وإذا لم يعتبر الرضا ، جاز أن لا يعتبر القبض كالشفعة .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية