الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              رسالة عبد العزيز بن عبد الله الماجشون في الرؤية

              59 - حدثنا أبو الفضل جعفر بن محمد القافلائي قال : ثنا محمد بن إسحاق الصاغاني ، قال : ثنا عبد الله بن صالح ، قال : أخبرني عبد العزيز بن عبد الله بن سلمة الماجشون ، أملاها علي إملاء ، وسألته فيما جحدت الجهمية [ ص: 64 ] .

              أما بعد : فقد فهمت ما سألت فيما تتابعت الجهمية ومن حالفها في صفة الرب العظيم الذي فاتت عظمته الوصف ، والتقدير ، وكلت الألسن عن تفسير صفته ، وانحسرت العقول دون معرفة قدره ، ودعت عظمته العقول ، فلم تجد مساغا فرجعت خاسئة وهي حسير ، وإنما أمرنا بالنظر والتفكر فيما خلق بالتقدير ، وإنما يقال : كيف كان ؟ ، لمن لم يكن مرة ثم كان ، فأما الذي لا يحول ، ولا يزول ، ولم يزل ، وليس له مثل ، فإنه لا يعلم كيف هو إلا هو ، وكيف يعرف قدر من لم يبدأ ومن لا يبلى ، ولا يموت ؟ وكيف يكون لصفة شيء منه حد ، أو منتهى ، يعرفه عارف ، أو يحد قدره واصف ؟ ، وذلك من جلاله ، فصل على أنه الحق المبين ، لا حق أحق منه ، ولا شيء أبين منه . الدليل على عجز العقول عن تحقيق صفته عجزها عن تحقيق صفة أصغر خلقه لا تكاد تراه صغرا يجول ويزول ، ولا يرى له سمع ولا بصر لما يتقلب به ويحتال من عقله ، أعضل بك وأخفى عليك مما ظهر من سمعه وبصره ، فتبارك الله أحسن الخالقين [ ص: 65 ] .

              وخالقهم وسيد السادة وربهم ليس كمثله شيء وهو السميع البصير .

              اعرف رحمك الله غناك عن تكلف صفة ما لم يصف الرب من نفسه بعجزك عن معرفته قدر ما وصف منها ، إذا لم تعرف قدر ما وصف فما كلفك علم ما لم يصف ، هل تستدل بذلك على شيء من طاعته أو تتزحزح عن شيء من معصيته ؟ فأما الذي جحد ما وصف الرب من نفسه تعمقا وتكلفا قد استهوته الشياطين في الأرض حيران ، فصار أحدها ، ومنها يستدل من زعم على جحد ما وصف الرب وسمى من نفسه بأن قال : لا بد إن كان له كذا من أن يكون له كذا ، فعمي عن البين بالخفي ، بجحد ما سمى الرب من نفسه ، فصمت الرب عما لم يسم منها ، فلم يزل يملي له الشيطان حتى جحد قول الله تعالى : وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة .

              فقال : لا يراه أحد يوم القيامة ، فجحد والله أفضل كرامة الله التي أكرم بها أولياءه يوم القيامة من النظر إلى وجهه ، ونضرته إياهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر ، وقد قضى أنهم لا يموتون ، فهم بالنظر إليه ينضرون [ ص: 66 ] .

              وإنما كان يهلك من رآه حيث لم يكن يبقى سواه ، فلما حتم البقاء ، ونفى الموت والفناء ، أكرم أولياءه بالنظر إليه واللقاء ، فورب السماء والأرض ليجعلن الله رؤيته يوم القيامة للمخلصين ثوابا فتنضر بها وجوههم دون المجرمين ، وتفلج بها حجتهم على الجاحدين ، فهم وشيعته وهم عن ربهم يومئذ محجوبون ، لا يرونه كما زعموا أنه لا يرى ، ولا يكلمهم ، ولا ينظر إليهم ، ولهم عذاب أليم ، كيف لم يعتبر قائله بقول الله تعالى : إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ؟ أيظن أن الله يقصيهم ويعذبهم بأمر يزعم الفاسق أنه وأولياؤه فيه سواء ؟ وإنما جحد رؤيته يوم القيامة ؛ إقامة للحجة الضالة المضلة ؛ لأنه قد عرف إذا تجلى لهم يوم القيامة رأوا منه ما كانوا به قبل ذلك مؤمنين ، وكان له جاحدا .

              وقال المسلمون : يا رسول الله : هل نرى ربنا ؟ وذلك قبل أن ينزل الله عز وجل : وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هل تضارون في رؤية الشمس دونها سحاب ؟ " قالوا : لا ، قال : " فهل [ ص: 67 ] تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب ؟ " فقالوا : لا ، قال : " فإنكم ترون ربكم يومئذ كذلك " وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تمتلئ النار حتى يضع الرحمن قدمه فيها فتقول : قط قط ، فينزوي بعضها إلى بعض " ، وقال لثابت بن قيس : " لقد ضحك الله مما فعلت بضيفك البارحة " وقال فيما بلغنا : " إن الله ليضحك من أزلكم ، وقنوطكم ، وسرعة إجابتكم " ، وقال له رجل من العرب : إن ربنا ليضحك ؟ قال " نعم " قال : لا يعدمنا من رب يضحك خيرا " في أشباه لهذا مما لم نحصه ، وقال تعالى : وهو السميع البصير ، [ ص: 68 ] .

              واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا .

              وقال تعالى : ولتصنع على عيني .

              وقال : ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي .

              وقال : والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون .

              فوالله ما دلهم على عظيم من وصف نفسه ، وما تحيط قبضته إلا صغر نظيرها منهم عندهم أن ذلك الذي ألقى في روعهم ، وخلق على معرفة قلوبهم ، فما وصف الله من نفسه فسماه على لسان نبيه سميناه كما سماه ، ولم نتكلف منه صفة ما سواه لا هذا ولا هذا ، لا نجحد ما وصف ، ولا نتكلف معرفة ما لم يصف .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية