الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                          ولا يقاتلهم بما يعم إتلافه كالمنجنيق والنار إلا لضرورة ، ولا يستعين في حربهم بكافر . وهل يجوز أن يستعين عليهم بسلاحهم وكراعهم ؛ على وجهين . ولا يتبع لهم مدبر ، ولا يجاز على جريح ، ولا يغنم لهم مال ، ولا تسبى لهم ذرية ، ومن أسر من رجالهم حبس حتى تنقضي الحرب ، ثم يرسل ، وإن أسر صبي ، أو امرأة ، فهل يفعل به ذلك ، أو يخلى في الحال ؛ يحتمل وجهين . وإذا انقضى الحرب فمن وجد منهم ماله في يد إنسان أخذه ، ولا يضمن أهل العدل ما أتلفوه عليهم حال الحرب من نفس أو مال ، وهل يضمن البغاة ما أتلفوه على أهل العدل في الحرب ؛ على روايتين . ومن أتلف في غير حال الحرب شيئا ضمنه ، وما أخذوا في حال امتناعهم من زكاة ، أو خراج ، أو جزية لم يعد عليهم ، ولا على صاحبه . ومن ادعى دفع زكاته إليهم قبل بغير يمين ، وإن ادعى ذمي دفع جزيته إليهم لم يقبل إلا ببينة ، وإن ادعى إنسان دفع خراجه إليهم فهل يقبل بغير بينة ؛ على وجهين . وتجوز شهادتهم ، ولا ينقض من حكم حاكمهم إلا ما ينقض من حكم غيره .

                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                          ( ولا يقاتلهم بما يعم إتلافه كالمنجنيق والنار ) لأنه يعم من يجوز ومن لا يجوز ( إلا لضرورة ) كما في دفع الصائل ، فإن رماهم البغاة به ( جاز رميهم ، ولا يستعين في حربهم بكافر ) لأنه لا يستعان في قتال الكفار به ، فلأن لا يستعان به في قتال مسلم بطريق الأولى ، ولأن القصد كفهم لا قتلهم ، وهو لا يقصد قتلهم ، فإن احتاج فقدر عن كفهم عن فعل ما لا يجوز جازت الاستعانة بهم ، وإلا فلا .

                                                                                                                          ( وهل يجوز أن يستعين عليهم بسلاحهم وكراعهم ؛ ) أي : خيلهم ( على وجهين ) .

                                                                                                                          أحدهما : لا ، جزم به ابن هبيرة ، عن أحمد ، وحكاه القاضي والمؤلف عن أحمد ، وصححه ابن حمدان ، لأن الإسلام عصم أموالهم ، وإنما أتيح قتالهم لردهم إلى الطاعة ، فيبقى المال على العصمة ، كمال قاطع الطريق ، إلا أن تدعو ضرورة ، فيجوز كأكل مال الغير في المخمصة ، والثاني : يجوز ، جزم به في " الوجيز " ، وذكر القاضي أن أحمد أومأ إليه قياسا على أسلحة الكفار ، وعليه : لا يجوز قتالهم ، ويجب رده بعد أن تنقضي الحرب ، كما يرد سائر أموالهم ، ولا يرده حال الحرب ، لئلا يقاتلونا به ( ولا يتبع لهم مدبر ، ولا يجاز على جريح ) ولا يجوز قتلهم إذا تركوا القتال في قول الأكثر ، لما روى مروان ، قال : خرج خارج يوم الجمل لعلي : لا يقتلن مدبر ، ولا يذفف على جريح ، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ، ومن ألقى السلاح فهو آمن . رواه سعيد ، وعن عمار نحوه ، وكالصائل ، وفي " الترغيب " : إن المدبر من انكسرت شوكته لا المتحرف إلى موضع آخر ، فعلى هذا إذا قتل إنسانا منع من قتله ضمنه ، وهل يلزمه القصاص ؛ فيه وجهان ( ولا يغنم لهم مال ) لأنهم [ ص: 163 ] لم يكفروا ببغيهم وقتالهم ، وعصمة الأموال تابعة لدينهم ( ولا تسبى لهم ذرية ) لا نعلم فيه خلافا لأحد ، لأنهم لم يحصل منهم سبب أصلا ، بخلاف أهل البغي ، فإنه وجد منهم البغي والقتال .

                                                                                                                          ( ومن أسر من رجالهم حبس حتى تنقضي الحرب ) لأن في إطلاقهم ضررا على المسلمين ( ثم يرسل ) بعد ذلك ، لأن المانع من إرسالهم خوف مساعدة أصحابهم ، وقد زال ، وفي " الترغيب " : لا ، مع بقاء شوكتهم ، وقيل : يرسل إن أمن ضرره ، فإن بطلت ، ويتوقع اجتماعهم في الحال فوجهان .

                                                                                                                          فرع : إذا أسر رجلا مطاعا خلي ، زاد في " الرعاية " : إن أمن شره ، فإن أبى أن يدخل في الطاعة ، وفي " الكافي " و " الشرح " : وكان رجلا جلدا حبس ، وأطلق بعد الحرب ، زاد في " الشرح " : وشرط عليه ألا يعود إلى القتال .

                                                                                                                          ( وإن أسر صبي أو امرأة ، فهل يفعل به ذلك ، أو يخلى في الحال ، يحتمل وجهين ) .

                                                                                                                          أحدهما : يحبسون ، لأن فيه كسر قلوب البغاة ، وكالرجل .

                                                                                                                          والثاني : يخلون في الحال ، قدمه في " الرعاية " ، وصححه في " الكافي " و " الشرح " ، لأنه لا يخشى من تخليته .

                                                                                                                          فرع : لا يكره للعادل قتل ذوي رحمه الباغين ، ذكره القاضي ، لأنه قتل بحق ، أشبه إقامة الحد عليه ، والأصح يكره ، وقدمه في " الفروع " ، لقوله تعالى : وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا ] لقمان : 15 [ قال الشافعي : كف النبي صلى الله عليه وسلم أبا حذيفة بن عتبة عن [ ص: 164 ] قتل أبيه ، وقال بعضهم : لا يحل ، وذكره في " الفروع " احتمالا ، لأنه تعالى أمر بمصاحبته بالمعروف .

                                                                                                                          تنبيه : يجوز فداء أسارى أهل العدل بأسارى البغاة ، فإن قتل أهل البغي أسارى أهل العدل لم يجز لأهل العدل قتل أسراهم ، فإن اقتتلت طائفتان من البغاة فقدر الإمام على قهرهما ، لم يعن إحداهما على الأخرى ، وإن عجز وخاف اجتماعهما على حربه ضم إليه أقربهما إلى الحق ، فإن استويا اجتهد في ضم إحداهما ، ولا يقصد بذلك معونة إحداهما ، بل الاستعانة على الأخرى ، فإذا هزمها لم يقاتل من معه حتى يدعوهم إلى الطاعة ( وإذا انقضى الحرب فمن وجد منهم ماله في يد إنسان أخذه ) لقول علي : من عرف شيئا أخذه ، ولأنه مال معصوم بالإسلام ، أشبه مال غير البغاة ( ولا يضمن أهل العدل ما أتلفوه عليهم حال الحرب من نفس أو مال ) لأنه إذا لم يمكن دفع البغاة إلا بقتلهم جاز ، ولا شيء على قاتلهم من إثم ، ولا ضمان ، ولا كفارة ، لأنه فعل ما أمر به ، كما لو قتل الصائل عليه ( وهل يضمن البغاة ما أتلفوه على أهل العدل في الحرب ؛ على روايتين ) .

                                                                                                                          إحداهما : لا ضمان ، قدمها في " الكافي " و " الفروع " ، ونصرها في " الشرح " ، والقاضي في " الخلاف " ، وصححها ، لقول الزهري : هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون ، فأجمعوا أن لا يقاد أحد ، ولا يؤخذ مال ، على تأويل القرآن إلا ما وجد بعينه ، ذكره أحمد في رواية الأثرم ، واحتج به ، رواه الخلال ، قال القاضي : وهذا إجماع منهم مقطوع به ، ولأن تضمينهم يفضي إلى تنفيرهم من [ ص: 165 ] الرجوع إلى الطاعة ، فسقط كأهل الحرب ، وكأهل العدل .

                                                                                                                          والثانية : يضمنون ، جزم بها في " الوجيز " ، لقول أبي بكر : لأهل الردة تودون قتلانا ، ولا نودي قتلاكم ، ولأنها نفوس ، وأموال معصومة أتلفت بغير حق ولا ضرورة دفع مباح ، فوجب ضمانه كالذي تلف حال الحرب ، وجوابه : أن أبا بكر رجع عنه إلى قول عمر ولم يمضه ، ثم لو وجب التعزير في حق المرتدين لم يلزم مثله هنا ، فإن هؤلاء طائفة من المسلمين لهم تأويل سائغ ، وأولئك كفار لا تأويل لهم ، وإذا ضمن المال ، ففي القود وجهان ، فإن أهدر فالقود أولى ( ومن أتلف في غير حال الحرب شيئا ضمنه ) أي : من الفريقين ، رواية واحدة ، قاله في " المستوعب " ، لأن الأصل وجوب الضمان ، ترك العمل به في حال الحرب للضرورة ، فيبقى ما عداه ، وهل يتحتم قتل الباغي ؛ إذا قتل أحدا من أهل العدل في غير المعركة ؛ فيه وجهان ، الأصح : أنه لا يتحتم ، فأما الخوارج فالصحيح إباحة قتلهم ، فلا قصاص على أحد منهم ، ولا ضمان عليه في ماله ( وما أخذوا في حال امتناعهم من زكاة أو خراج أو جزية لم يعد عليهم ، ولا على صاحبه ) روي عن عمر ، وسلمة بن الأكوع ، وقاله أكثر العلماء ، لما روي أن عليا لما ظهر على أهل البصرة لم يطالبهم بشيء مما جبوه ، ولأن في ترك الاحتساب بها ضررا عظيما ومشقة كبيرة ، فإنهم قد يغلبون على البلاد السنين الكثيرة ، فلو لم يحتسب بما أخذوه لحصل الضرر ، وظاهره : لا فرق بين الخوارج وغيرهم ، وقال أبو عبيد : يجزئ دفع الزكاة إلى بغاة وخوارج ، ونص عليه أحمد في الخوارج ، ويقع موقعه ، قال القاضي في " الشرح " : هذا [ ص: 166 ] محمول على أنهم خرجوا بتأويل ، وذكر في موضع آخر : إنما يجوز أخذهم إذا نصبوا لهم إماما ، وفي الأحكام السلطانية : أنه لا يجزئ الدفع إليهم اختيارا ، وعن أحمد : الوقف فيما أخذوه من زكاة ، فلو صرفه أهل البغي في جهته صح ، قال ابن حمدان : ودفع سهم المسترزقة إلى أجنادهم يحتمل وجهين ( ومن ادعى دفع زكاته إليهم قبل بغير يمين ) لأن الزكاة لا يستحلف فيها ، قال أحمد : لا يستحلف الناس على صدقاتهم ( وإن ادعى ذمي دفع جزيته إليهم لم يقبل إلا ببينة ) لأنهم غير مأمونين ، ولأنها عوض أشبهت الأجرة ، وقيل : يقبل قولهم إذا مضى الحول ، لأن الظاهر أن البغاة لا يدعون الجزية لهم ( وإن ادعى إنسان دفع خراجه إليهم فهل يقبل بغير بينة ؛ على وجهين ) .

                                                                                                                          أشهرهما : لا يقبل إلا ببينة ، قدمه في " الرعاية " ، وجزم به في " الوجيز " ، لأنه عوض أشبه الجزية .

                                                                                                                          والثاني : يقبل ، لأنه حق على مسلم ، فقبل قوله كالزكاة ، وقيل : بلى ، إن حلف ( وتجوز شهادتهم ) لأنهم أخطئوا في فرع من فروع الإسلام باجتهادهم ، أشبه المختلفين من الفقهاء في الأحكام ، وإذا لم يكونوا من أهل البدع قبلت شهادتهم كأهل العدل ، بغير خلاف نعلمه ، قال ابن عقيل : تقبل شهادتهم ، ويؤخذ عنهم العلم ما لم يكونوا دعاة . انتهى . فأما الخوارج ، وأهل البدع إذا خرجوا على الإمام فلا تقبل لهم شهادة ، لأنهم فساق ( ولا ينقض من حكم حاكمهم إلا ما ينقض من حكم غيره ) لأن نفيهم في أمر يسوغ فيه التأويل ، أشبه الاختلاف في الفروع ، فعلى هذا : إن خالف حكم حاكمهم نصا أو إجماعا ، أو كان ممن يستحل دماء أهل العدل ، وأموالهم نقض حكمه [ ص: 167 ] فرع : إذا كتب قاضيهم إلى قاضي أهل العدل جاز قبول كتابه ، لأنه قاض ثابت القضاء ، وفي " المغني " ، و " الشرح " ، و " الترغيب " : الأولى رد كتابه قبل حكمه كسرا لقلوبهم ، فأما الخوارج إذا ولوا قاضيا لم يجز قضاؤه للفسق ، وفي " المغني " ، و " الشرح " احتمال : يصح قضاؤه دفعا للضرر ، كما لو أقام الحد ، أو أخذ جزيته وخراجا وزكاة .




                                                                                                                          الخدمات العلمية