الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  3979 [ ص: 246 ] 237 - حدثني يحيى بن قزعة ، حدثنا مالك عن ابن شهاب ، عن عبد الله والحسن ابني محمد بن علي ، عن أبيهما ، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء يوم خيبر ، وعن أكل الحمر الإنسية .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله : " يوم خيبر " ، والحديث أخرجه البخاري أيضا في الذبائح ، عن عبد الله بن يوسف ، عن مالك ، وفي النكاح عن مالك بن إسماعيل عن سفيان بن عيينة ، وفي ترك الحيل عن مسدد ، وأخرجه مسلم في النكاح عن يحيى بن يحيى وغيره ، وأخرجه الترمذي في النكاح عن ابن أبي عمر ، وغيره ، وأخرجه النسائي في الصيد عن محمد بن منصور ، والحارث بن مسكين وغيرهما ، وأخرجه ابن ماجه في النكاح عن محمد بن يحيى .

                                                                                                                                                                                  قوله : " نهى عن متعة النساء " نكاح المتعة هو النكاح الذي بلفظ التمتع إلى وقت معين ، نحو أن يقول لامرأة : " أتمتع بك كذا مدة بكذا من المال " ، وقال ابن عبد البر في التمهيد : أجمعوا على أن المتعة نكاح لا إشهاد فيه ، وأنه نكاح إلى أجل تقع فيه الفرقة بلا طلاق ولا ميراث بينهما ، قال : وهذا ليس حكم الزوجات في كتاب الله ولا سنة رسوله . انتهى ، وقال القاضي عياض في الإكمال : اتفق العلماء على أن هذه المتعة كانت نكاحا إلى أجل لا ميراث فيه ، وفراقها يحصل بانقضاء الأجل من غير طلاق ، وإذا تقرر أن نكاح المتعة هو الموقت ، فلو أقته بمدة تعلم بمقتضى العادة أنهما لا يعيشان إلى انقضاء أجلها ، كمائتي سنة ونحوها ، فهل يبطل لوجود التأقيت ، أو يصح لأنه زال ما كان يخشى من انقطاع النكاح بغير طلاق ، ومن عدم الميراث بين الزوجين أطلق الجمهور عدم الصحة .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : هل ذهب أحد إلى جوازها ؟

                                                                                                                                                                                  قلت : ادعى فيه غير واحد من العلماء الإجماع ، وقال الخطابي في المعالم : كان ذلك مباحا في صدر الإسلام ، ثم حرم ، فلم يبق اليوم فيه خلاف بين الأئمة إلا شيئا ذهب إليه بعض الروافض ، قال : وكان ابن عباس يتأول في إباحته للمضطر بطول الغربة وقلة اليسار والجدة ، ثم توقف عنه وأمسك عن الفتوى به ، وقال أبو بكر الحازمي : يروى عن ابن جريج جوازه ، وقال المازري في المعلم : تقرر الإجماع على منعه ، ولم يخالف فيه إلا طائفة من المبتدعة ، وقال صاحب المفهم : أجمع السلف والخلف على تحريمها ، إلا ما روي عن ابن عباس - وروي عنه أنه رجع - وإلا الرافضة .

                                                                                                                                                                                  وحكى أبو عمر الخلاف القديم فيه ; فقال : وأما الصحابة فإنهم اختلفوا في نكاح المتعة ; فذهب ابن عباس إلى إجازتها وتحليلها لا خلاف عنه في ذلك ، وعليه أكثر أصحابه منهم عطاء بن أبي رباح وسعيد بن جبير وطاوس قال : وروي أيضا تحليلها وإجازتها عن أبي سعيد الخدري وجابر بن عبد الله ; قالا : تمتعنا إلى نصف من خلافة عمر رضي الله تعالى عنه حتى نهى عمر الناس عنها في شأن عمرو بن حريث ونكاح المتعة قبل التحريم هل كان مطلقا أو مقيدا بالحاجة وبالأسفار ؟ قال الطحاوي : كل هؤلاء الذين رووا عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إطلاقها أخبروا أنها كانت في سفر ، وليس أحد منهم أخبر أنها كانت في حضر ، وذكر حديث ابن مسعود أنه أباحها لهم في الغزو ، وقال الحازمي : ولم يبلغنا أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أباحها لهم وهم في بيوتهم ، وقال القاضي عياض : قد ذكر في حديث ابن عمر أنها كانت رخصة في أول الإسلام لمن اضطر إليها كالميتة .

                                                                                                                                                                                  وإذا تقرر أن نكاح المتعة غير صحيح ، فهل يحد من وطئ في نكاح متعة ؟ فأكثر أصحاب مالك قالوا : لا يحد لشبهة العقد وللخلاف المتقدم فيه ، وأنه ليس من تحريم القرآن ، ولكنه يعاقب عقوبة شديدة ، وقال صاحب الإكمال : هذا هو المروي عن مالك ، وأصل هذا عند بعض شيوخنا التفريق في الحد بين ما حرمته السنة أو حرمه القرآن ، وأيضا فالخلاف بين الأصوليين هل يصح الإجماع على أحد القولين بعد الخلاف أو لا ينعقد ؟ وحكم الخلاف باق ، قال : وهذا مذهب القاضي أبي بكر ، وقال الرافعي ما ملخصه : إن صح رجوع ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وجب الحد لحصول الإجماع ، وإن لم يصح رجوعه فيبنى على أنه لو اختلف أهل عصر في مسألة ، ثم اتفق من بعدهم على أحد القولين فيها هل يصير ذلك مجمعا عليها ؟ فيه وجهان أصوليان ; إن قلنا : نعم ، وجب الحد ، وإلا فلا ، كالوطء في سائر الأنكحة المختلف فيها ، قال : وهو الأصح ، وكذا صححه النووي رحمه الله تعالى ، قوله : " يوم خيبر " ، وفي لفظ الترمذي زمن خيبر ، وقال ابن عبد البر ، وذكر [ ص: 247 ] النهي عن المتعة يوم خيبر غلط ، وقال السهيلي : النهي عن المتعة يوم خيبر لا يعرفه أحد من أهل السير ورواة الأثر ، وقد روى الشافعي عن مالك بإسناده عن علي رضي الله تعالى عنه : أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم نهى يوم خيبر عن أكل لحوم الحمر الأهلية لم يزد على ذلك ، وسكت عن قصة المتعة لما علم فيها من الاختلاف .

                                                                                                                                                                                  قلت : قد اختلف في وقت النهي عن نكاح المتعة هل كان زمن خيبر أو في زمن الفتح أو في غزوة أوطاس ، وهي في عام الفتح أو في غزوة تبوك ، أو في حجة الوداع ، أو في عمرة القضاء ; ففي رواية مالك ومن تابعه في حديث علي رضي الله تعالى عنه : أن ذلك زمن خيبر كما في حديث الباب ، وكذلك في حديث ابن عمر ، رواه البيهقي من رواية ابن شهاب قال : أخبرني سالم بن عبد الله : أن رجلا سأل عبد الله بن عمر عن المتعة فقال : حرام ، قال : إن فلانا يقول بها ، فقال : والله لقد علم أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حرمها يوم خيبر ، وما كنا مسافحين . وفي حديث سبرة بن معبد الجهني عند مسلم أنه أذن فيها في فتح مكة ، وفيه فلم أخرج حتى حرمها ، وفي حديث سلمة بن الأكوع عند مسلم أيضا : أنه رخص فيها عام أوطاس ثلاثة أيام ، ثم نهى عنها ، وفي حديث سبرة عند أبي داود أنه نهى عنها في حجة الوداع ، وفي بعض طرق حديث علي رضي الله تعالى عنه : أن ذلك كان في غزوة تبوك . ذكره ابن عبد البر ، وكذلك في حديث أبي هريرة : أن ذلك كان في غزوة تبوك ، رواه الطحاوي والبيهقي ، وكذلك في حديث جابر ، رواه الحازمي في كتاب الناسخ والمنسوخ ، وفيه يقول جابر بن عبد الله : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك حتى إذا كنا عند العقبة مما يلي الشام جئن نسوة فذكرنا تمتعنا وهن يجلن في رحالنا ، أو قال : يطفن في رحالنا ، فجاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنظر إليهن فقال : من هؤلاء النسوة ؟ فقلنا : يا رسول الله نتمتع منهن ، قال : فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى احمرت وجنتاه وتمعر لونه واشتد غضبه ، فقام فينا خطيبا ، فحمد الله ، وأثنى عليه ، ثم نهى عن المتعة ، فتوادعنا يومئذ الرجال والنساء ، ولم نعد ، ولا نعود لها أبدا فيها ، فسميت يومئذ ثنية الوداع ، وذكر عبد الرزاق عن معمر عن الحسن قال : ما حلت المتعة قط إلا ثلاثا في عمرة القضاء ما حلت قبلها ولا بعدها .

                                                                                                                                                                                  وقال ابن عبد البر : وهذا الباب فيه اختلاف شديد ، وفيه أحاديث كثيرة لم نكتبها .

                                                                                                                                                                                  قلت : الجمع بين هذه الأحاديث وترجيح بعضها عند عدم إمكان الجمع على وجوه ذكرها العلماء ; فقال المازري : ليس هذا تناقضا ; لأنه يصح أن ينهى عنها في زمن ثم ينهى عنها في زمن آخر توكيدا أو ليشتهر النهي ويسمعه من لم يكن سمعه أولا ، فسمع بعض الرواة النهي في زمن وسمعه آخرون في زمن آخر ، فنقل كل منهم ما سمعه وأضافه إلى زمن سماعه ، وقال القاضي عياض : يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم أباحها لهم للضرورة بعد التحريم ، ثم حرمها تحريما مؤبدا ، فيكون أنه حرمها يوم خيبر وفي عمرة القضاء ، ثم أباحها يوم الفتح للضرورة ، ثم حرمها يوم الفتح أيضا تحريما مؤبدا ، وقال النووي : الصواب المختار أن التحريم والإباحة كانا مرتين ، وكانت حلالا قبل خيبر ، ثم حرمت يوم خيبر ، ثم أبيحت يوم فتح مكة ، وهو يوم أوطاس لاتصالهما ، ثم حرمت يومئذ بعد ثلاثة أيام تحريما مؤبدا إلى يوم القيامة ، وذكر بعضهم أنه لا يعرف شيء نسخ مرتين إلا نكاح المتعة .

                                                                                                                                                                                  قلت : زاد بعضهم عليه أمر تحويل الصلاة أنه وقع مرتين ، وزاد أبو بكر بن العربي ثالثا فقال : نسخ الله القبلة مرتين ، ونسخ نكاح المتعة مرتين ، وأباح أكل لحوم الحمر الأهلية مرتين ، وزاد أبو العباس العوفي رابعا ، وهو الوضوء مما مسته النار على ما قاله ابن شهاب ، وروي مثله عن عائشة ، وزاد بعضهم الكلام في الصلاة نسخ مرتين ، حكاه القاضي عياض في الإكمال ، وكذلك المخابرة على قول ابن الأعرابي ، وفي التوضيح هذا أغرب ما وقع في الشريعة ; أبيح ثم نهي عنه يوم خيبر ، ثم أبيح في عمرة القضاء وأوائل الفتح ، ثم نهي عنه ، ثم أبيح ، ثم نهي عنها إلى يوم القيامة .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية