الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 45 ] ذكر حبس العباس بن المأمون

في هذه السنة حبس المعتصم العباس بن المأمون ، وأمر بلعنه .

وكان سبب ذلك أن عجيف بن عنبسة لما وجهه المعتصم إلى بلاد الروم لما كان ملك الروم بزبطرة ، مع عمر الفرغاني ومحمد كوتاه ، لم يطلق يد عجيف في النفقات ، كما أطلقت يد الأفشين ، واستقصر المعتصم أمر عجيف وأفعاله ، وظهر ذلك لعجيف ، فوبخ العباس بن المأمون على ما تقدم من فعله عند وفاة المأمون ، حتى بايع المعتصم ، وشجعه على أن يتلافى ما كان منه .

فقبل العباس قوله ، ودس رجلا يقال له الحارث السمرقندي ، قرابة عبيد الله بن الوضاح ، ( وكان العباس يأنس به ) ، وكان الحارث أديبا له عقل ومداراة ، فجعله العباس رسوله ، وسفيره إلى القواد ، وكان يدور في العسكر ، حتى استمال له جماعة من القواد ، وبايعوه وجماعة من خواص المعتصم ، وقال لكل من بايعه : إذا أظهرنا أمرنا فليثب كل منكم بالقائد الذي هو معه ، فوكل من بايعه من خواص المعتصم بقتله ، ومن بايعه من خاصة الأفشين بقتله ، ومن بايعه من خاصة أشناس بقتله ، وكذلك غيرهم فضمنوا له ذلك .

فلما دخل الدرب ، وهم يريدون أنقرة وعمورية ، دخل الأفشين من ناحية ملطية ، فأشار عجيف على العباس أن يثب بالمعتصم في الدرب ، وهو في قلة من الناس ، فيقتله ويرجع إلى بغداذ ، ( فإن الناس يفرحون بانصرافهم إلى بغداذ ) من الغزو ، فأبى العباس ذلك ، وقال : لا أفسد هذه الغزوة ، حتى دخلوا بلاد الروم ، وافتتحوا عمورية ، فقال عجيف للعباس : يا نائم ! قد فتحت عمورية ، والرجل ممكن ، تضع قوما ينهبون بعض الغنائم ، فإذا بلغه ذلك ركب في سرعة ، فتأمر بقتله هناك ، فأبى عليه ، وقال : انتظر حتى يصير إلى الدروب ، ويخلو كما كان أول مرة ، وهو أمكن منه هاهنا .

وكان عجيف قد أمر من ينهب المتاع ، ففعلوا ، وركب المعتصم ، وجاء ركضا ، [ ص: 46 ] وسكن الناس ، ولم يطلق العباس أحدا من أولئك الذين واعدهم وكرهوا قتله بغير أمر العباس .

وكان الفرغاني قد بلغه الخبر ذلك اليوم ، وله قرابة غلام أمرد في خاصة المعتصم ، فجاء الغلام إلى ولد عمر الفرغاني ، وشرب عندهم تلك الليلة ، فأخبرهم خبر ركوب المعتصم ، وأنه كان معه ، وأمره أن يسل سيفه ويضرب كل من لقيه ، فسمع عمر ذلك من الغلام ، فأشفق عليه من أن يصاب فقال : يا بني ! أقلل من المقام عند أمير المؤمنين ، والزم خيمتك ، وإن سمعت صيحة وشغبا فلا تبرح ، فإنك غلام غر ، ولا تعرف العساكر ، فعرف مقالة عمر .

وارتحل المعتصم إلى الثغور ، ووجه الأفشين ابن الأقطع ، وأمره أن يغير على بعض المواضع ، ويوافيه في الطريق ، فمضى وأغار ، وعاد إلى العسكر في بعض المنازل ومعه الغنائم ، فنزل بعسكر الأفشين ، وكان كل عسكر على حدة ، فتوجه عمر الفرغاني ، وأحمد بن الخليل من عسكر أشناس إلى عسكر الأفشين ليشتريا من السبي شيئا ، فلقيهما الأفشين فترجلا ، وسلما عليه ، وتوجها إلى الغنيمة ، فرآهما صاحب أشناس ، فأعلمه بهما ، فأرسل أشناس إليهما بعض أصحابه; لينظر ما يصنعان ، فجاء فرآهما وهما ينتظران بيع السبي ، فرجع ، فأخبر أشناس الخبر ، فقال أشناس لحاجبه : قل لهما يلزما العسكر ، وهو خير لهما ، فقال لهما ، فاغتما لذلك ، واتفقا على أن يذهبا إلى صاحب خبر العسكر ، فيستعفياه من أشناس ، فأتياه وقالا : نحن عبيد أمير المؤمنين ، فضمنا إلى من تشاء ، فإن هذا الرجل يستخف بنا ، قد شتمنا ، وتوعدنا ، ونحن نخاف أن يقدم علينا ، فليضمنا أمير المؤمنين إلى من أراد .

‌‌فأنهى ذلك إلى المعتصم ، واتفق على الرحيل‌‌‌‌‌ ، وسار أشناس والأفشين مع المعتصم ، فقال لأشناس : أحسن أدب عمر وأحمد ، فإنهما قد حمقا أنفسهما ! فجاء أشناس إلى عسكره ، فأخذهما ، وحبسهما ، وحملهما على بغل ، حتى صار بالصفصاف ، فجاء ذلك الغلام ، وحكى للمعتصم ما سمع من عمر الفرغاني في تلك الليلة ، فأنفذ المعتصم بغا ، وأخذ عمر من عند أشناس ، وسأله عن الذي قاله للغلام ، فأنكر ذلك ، وقال : إنه كان سكران ، ولم يعلم ما قلت ، فدفعه إلى إيتاخ ، وسار المعتصم ، فأنفذ أحمد بن الخليل إلى أشناس يقول له : إن عندي نصيحة لأمير المؤمنين ، فبعث إليه يسأله عنها ، فقال : لا أخبر بها إلا أمير المؤمنين ، فحلف أشناس : إن هو لم يخبرني بهذه النصيحة لأضربنه بالسياط حتى يموت .

[ ص: 47 ] فلما سمع ذلك أحمد حضر عند أشناس ، وأخبره خبر العباس بن المأمون ، والقواد ، والحارث السمرقندي ، فأنفذ أشناس ، وأخذ الحارث وقيده وسيره إلى المعتصم ، وكان قد تقدم ، فلما دخل على المعتصم أخبره بالحال جميعه ، وبجميع من بايعهم من القواد وغيرهم ، فأطلقه المعتصم ، وخلع عليه ، ولم يصدق على أولئك القواد لكثرتهم .

وأحضر المعتصم العباس بن المأمون وسقاه حتى سكر ، وحلفه أن لا يكتمه من أمره شيئا ، فشرح له أمره كله مثل ما شرح الحارث ، فأخذه وقيده وسلمه إلى الأفشين ، فحبسه عنده .

وتتبع المعتصم أولئك القواد ، وكانوا يحملون في الطريق على بغال بأكف بلا وطاء ، وأخذ أيضا الشاه بن سهل ، وهو من أهل خراسان ، فقال له المعتصم : يا ابن الزانية ! أحسنت إليك فلم تشكر ، فقال : ابن الزانية هذا ، وأومأ إلى العباس ، وكان حاضرا ، لو تركني ما كنت الساعة تقدر أن تجلس هذا المجلس ، وتقول هذا الكلام ! فأمر به فضربت عنقه ، وهو أول من قتل منهم ، ودفع العباس إلى الأفشين .

فلما نزل منبج طلب العباس بن المأمون الطعام ، فقدم إليه طعام كثير ، فأكل ، ومنع الماء ، وأدرج في مسح ، فمات بمنبج ، وصلى عليه بعض إخوته .

وأما عمر الفرغاني فلما وصل المعتصم إلى نصيبين حفر له بئرا ، وألقاه فيها وطمها عليه .

وأما عجيف فمات بباعيناثا من بلد الموصل ، وقيل بل أطعم طعاما كثيرا ، ومنع الماء ، حتى مات بباعيناثا .

وتتبع جميعهم ، فلم يمض عليهم إلا أيام قلائل حتى ماتوا جميعا .

ووصل المعتصم إلى سامرا سالما ، فسمى العباس يومئذ اللعين ، وأخذ أولاد المأمون من سندس ، فحبسهم في داره حتى ماتوا بعد .

[ ص: 48 ] ومن أحسن ما يذكر أن محمد بن علي الإسكافي كان يتولى إقطاع عجيف ، فرفع أهله عليه إلى عجيف ، فأخذه ، وأراد قتله ، فبال في ثيابه خوفا من عجيف ، ثم شفع فيه ، فقيده وحبسه ، ثم سار إلى الروم ، وأخذه المعتصم ، كما ذكرنا ، وأطلق من كان في حبسه ، ( وكانوا جماعة ) منهم الإسكافي ، ثم استعمل على نواح بالجزيرة ، ومن جملتها باعيناثا ، قال : فخرجت يوما إلى تل باعيناثا ، فاحتجت إلى الوضوء ، فجئت إلى تل فبلت عليه ، ثم توضأت ونزلت ، وشيخ باعيناثا ينتظرني ، فقال لي : في هذا التل قبر عجيف ، وأرانيه ، فإذا [ أنا ] قد بلت عليه ، وكان بين الأمرين سنة لا تزيد يوما ولا تنقص يوما .

التالي السابق


الخدمات العلمية