الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

هل تتركين عبادة ربك وتقومين بأعمال الدنيا..وساوس أزعجتني!

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته

قبل مدة بدأت أتقرب إلى الله، وتبت إليه وتوقفت عن فعل الكثير من الأفعال التي كنت أفعلها -والحمد لله- وهذا بفضل ربي سبحانه وتعالى، بدأت طريقي في التقرب من الله، فأصبحت أبادر ببعض نوافل وقيام الليل، وقراءة القرآن، وكل مرة أزيد قليلاً في تطوعي.

بعد أيام أصبحت ملازمة لقراءة القرآن والصلاة، بحيث أصبحت لا أقوم بأعمال البيت مع أمي، وأبقى أعبد ربي، فكل ما أردت القيام بشيء ما غير قراءة القرآن والصلاة والذكر، يأتيني صوت في رأسي يقول لي: هل تتركين عبادة ربك وتقومين بهذه الأعمال؟ شيئاً فشيئاً أصبحت أرى أن كل ما في الدنيا تافهٌ، ولا يستحق أن أشتغل به، حتى وصل الأمر إلى أني لا أرغب في الالتحاق بالجامعة، كونها تدرس علماً غير العلم الشرعي.

بعدها أصبحت أعاني من وسواس الرياء، وبعدها وسواس الصلاة، أصبحت أخاف أن لا أخشع في الصلاة، فعندما يقترب وقت الصلاة أحس بخوف شديد، وضيق، خوفاً من أن لا أخشع في صلاتي، ولم أعد أستطع أن أصلي أمام أناس لأني أتشتت، ومن ثم أصبحت أستيقظ صباحاً وأنا أشعر بضيق، وأقوم لقيام الليل، وألف فكرة وفكرة تدور في رأسي، وكلها أفكار وساوس تصيبني بحزن، لم يعد الحزن والضيق يفارقانني.

أصبحت أرى أن كل ما في هذه الحياة لا يستحق اهتماماً، حتى إني لما التحقت بالجامعة -بعد حرص والدي على ذلك-، لم أستطع حمل كراس، وأقول في نفسي: هذا علم دنيا، ولا ينفعني في الآخرة.

دعوت الله أن يسهل لي الشفاء، وهو لا يرد دعاءً سبحانه، وأردت أن آخذ بالأسباب، وأستشيركم، أرجو أن تجيبوني، حفظكم الله.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ هاجر حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

مرحباً بك -أختي الفاضلة- في استشارات إسلام ويب، ونسأل الله أن يوفقنا وإياك لصالح القول والعمل، ونسأل الله أن يُثبتك على الخير، ويلهمك الرُّشد والسداد في القول والعمل.

أختي الفاضلة: ما تمرين به مرحلة طبيعية لغواية الشيطان ومكائده التي لا تتوقف عن قلب المسلم، فعندما عجز الشيطان أن يغويك في العودة إلى ما كنت عليه قبل التوبة والاستقامة، وعجز أن يبعدك عن العمل الصالح والتعلق بالقرآن، انتقل إلى مسلك آخر، وهو إفساد العمل الصالح نفسه، وإفساد ثمرته على القلب.

حالة الشك والخوف والحزن كلها تنافي ثمار العمل الصالح، التي تجعل القلب في راحة وطمأنينة ورضاً، وهذه الحالة لو استمرت معك ستضعف إيمانك شيئاً فشيئاً، حتى لا تجدي للعمل الصالح أي روح ولا معنى.

أختي الفاضلة: لا بد لك من معرفة مداخل الشيطان على النفس وهي كثيرة، وقطع الطريق أمام وساوس الشيطان وأوهامه التي يقذفها في قلبك، وأفضل الوسائل لقطع الطريق على الشيطان، هي الاستعانة بالله والدعاء الدائم، ثم طلب العلم الشرعي وتزكية النفس بمعرفة مداخل الشيطان، ومن أفضل الكتب النافعة في ذلك كتاب الإمام ابن القيم -رحمه الله- (إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان).

أختي الفاضلة: ينبغي أن تعلمي أن الدنيا هي ساحة العمل الصالح، وأن الله لم يذم الدنيا إلا عندما تصرف الإنسان عن عمل الآخرة، والانشغال بالعبادة أمر مرغوب ومشروع، ولكن حصر العبادات في جزء صغير منها، والتشديد على النفس فيها يُفقد المسلم التوازن في الحياة، وليس من هدي النبي صلى الله عليه وسلم.

الموقف الذي أنت فيه يشبه موقف الثلاثة الذين سألوا عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث عن أنس -رضي الله عنه- قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أُخبروا كأنهم تقآلُّوها، (أي رأوا أنها قليلة) وقالوا: أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟ وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدًا. وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر أبدًا ولا أفطر. وقال الآخر: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فقال: (أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) متفق عليه.

حياة المسلم لله بكل تفاصيلها، ولا يعني أن تكون كلها ممارسة للعبادات وقراءة القرآن، وانقطاع عن الأعمال وأبواب الخير الأخرى، أو التفريط في حقوق وواجبات الآخرين، ولا يحدث هذا إلا عندما يخطئ الكثير في فهم معنى العمل الصالح، وتوسيع دلالته، لتشمل كل أبواب الخير والبر والإحسان، والعدل في حق النفس والغير.

هذا ما قاله سلمان الفارسي - رضي الله عنه - لأخيه أبي الدرداء عندما زاره فوجده قد انقطع للعبادة حتى أهمل حق زوجته، وحق نفسه، فقال: (إن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه)، وقد أقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك بقوله: (صدق سلمان)، فالصحابة كان منهم التاجر، والعالم، والمزارع، والصانع...الخ، وكانوا من خيرة العباد والصالحين.

أختي الفاضلة: يحتاج المسلم إلى فقه العمل الصالح، ومعرفة الأولويات، فخدمة والدتك من أعظم القربات، ولك فيها الأجر والحسنات، فلا بد أن تستشعري هذا الأمر عند ممارسة أي عمل صالح أن هناك أولويات، وهناك تفاضل في العمل الصالح بين العمل الذي يقتصر أثره على الذات، والعمل الذي يتعدى أثره للآخرين، والأمة، لذلك كانت الدعوة إلى الله من أعظم القربات إلى الله تعالى.

ومن هنا تدركين -أختي الفاضلة- أن علوم الدنيا يمكن أن تكون سبباً في خدمة دين الله وعباد الله، ورفع الحرج عنهم، حتى لا يحتاجوا لغير المسلمين، أو يحتاجوا أشخاصاً ليس لديهم دين أو قيم وأخلاق، ولو ترك الناس هذه المجالات وتفرغوا للعبادة وحدها لفسدت معايش الناس وحياتهم، وهذا ليس من الحكمة في شيء، فلا بد -أختي- أن توسعي فهمك لمعنى العمل الصالح، وتوسعي دائرة التقرب إلى الله لتكون شاملة لكل أبواب الخير والبر والإحسان.

أختي الفاضلة: ينتقل معك الشيطان إلى مسلك آخر، وهو المدخل الذي يأتي منه إلى العُبَّاد، ممن يقل علمهم وفقههم في الدين، فيخوفك من الرياء، لتتركي العمل الصالح، وترك العمل الصالح من أجل الناس رياء كما نقل عن الفضيل بن عياض- رحمه الله- كما في شعب الإيمان، يقول: (ترك العمل من أجل الناس رياء، والعمل من أجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله منهما).

الاسترسال في الأوهام، وفتح المجال لها سيحولها إلى عادة تُفسد عليك كل عبادة وطاعة، لذلك على المسلم أن يعمل العمل الصالح قاصداً به وجه الله أولاً، متبعاً هدي النبي صلى الله عليه وسلم ثانياً، فإن جاء وسواس الرياء والسمعة استعاذ بالله من الشيطان الرجيم، وترك التفكير بهذا الأمر وانشغل بالعمل الصالح ولا يقطعه خوفاً من ذلك.

أحسنت -أختي الفاضلة- عندما أخذت بالأسباب وطلبت المشورة من أهل الاختصاص، لذلك -أختي الفاضلة- نرشدك لأمور مهمة تعينك على هذا الأمر وتذهبها عنك بعون الله.

أولاً: عليك بطلب العلم الشرعي والتفقه في الدين، وعلوم تزكية النفس، وذلك حتى تعرفي أحكام الشرع، فتعبدي الله على بصيرة وتعرفي مداخل الشيطان ومكايده، وما يصلح النفس وما يفسدها.

ثانياً: توسيع دائرة العمل الصالح، والانتقال من العبادات ذات النفع الذاتي إلى الطاعات ذات النفع المتعدي، مثل الدعوة إلى الله تعالى، فالانشغال بالدعوة إلى الله يعينك على الكثير من طلب العلم ويشعرك بالعطاء، والنفع للآخرين، وهو من أفضل الأعمال الصالحة.

ثالثاً: الحزن والألم والتشتت والتخبط من مزالق الشيطان الذي ينتهي إلى العجز، والاسترسال فيها يزيد منها ويوسع دائرتها إلى مجالات أكثر وأكبر، لذلك عليك قطع هذه الهواجس كالتفكير بالرياء، وما يقول الناس عنك.. إلخ، واستعيذي بالله من الشيطان الرجيم، ولا تلتفتي لأي شيء من ذلك مهما كان، واحرصي على أذكار الصباح والمساء دون انقطاع.

رابعاً: عليك بطاعة والدتك، فبرها من أعظم القربات، وقد وصى الله بحق الوالدين، فقال سبحانه: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً) وجاء رجل إلى النبي صلى اللهُ عليهِ وسلَّم ، فقال: يا رسول الله إني أريد الجهاد في سبيل الله تعالى، فقال: أمّك حيةٌ؟ قال: نعمْ، قال: الزم رجلها فثمَّ الجنَّة) أي ملازمة برها وطاعتها تدخل المسلم الجنة، فلا تستهيني بطاعة والدتك، بل بريها تقرباً إلى الله.

أخيراً -أختي الفاضلة- عليك بالدعاء، والضراعة لله تعالى أن يشرح صدرك ويحميك من مكايد الشيطان، وعليك بملازمة النساء الصالحات الفاضلات، حتى تتقوي على الطاعات وتكون لك صحبة صالحة تدلك على طريق الخير.

نسأل الله لك الثبات والسداد على الخير و الطاعات.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً