الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أصبت بفتور شديد بعد أن كنت ملازماً للطاعات..فما النصيحة؟

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أنا شاب قد هداني الله وفتح عليَّ فتحًا مبينًا، فتقرّبت إليه، وكنتُ دائم الصلاة في المسجد، ملازمًا للذكر، أبدأ يومي بعد صلاة الصبح بقراءة ورد من سورة البقرة، ثم أذكار الصباح، وكنتُ دائم الدعاء، حتى أتى رمضان، فقصّرتُ تقصيرًا شديدًا؛ حيث كنت أفطر عمدًا، وأخرج في نهار رمضان لشراء السجائر، وأشربها متخفيًا.

فابتلاني الله بعد ذلك بفتور شديد في العبادات، حتى إنني لا أقدر على الدعاء أبدًا، وأصبحت أخشى أن أترك الصلاة لشدة الكسل الذي أعانيه، مع نفور من كل عبادة، حتى تركت أذكار الصباح وورد سورة البقرة.

بماذا تنصحونني؟ مع العلم أنني غير قادر على التوبة ولا على الاستغفار، وإن كنت أحاول جاهدًا، وما الأعمال التي تقرّبني إلى رضا الله وعفوه؟ وكيف أعود إلى سابق عهدي؟ وهل هناك حالات مشابهة لحالتي ممن ابتلاهم الله بمثل هذا الفتور، ثم عادوا إلى ما كانوا عليه من الطاعة؟

وفي الختام: أسألكم الدعاء بأن يغفر الله لي ما بدر مني، وأن يعيدني إلى ما كنت عليه من صلاة وذكر وتلاوة للقرآن ودعاء.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ محمد حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

مرحبًا بك -ولدنا الحبيب- في استشارات إسلام ويب.

نشكر لك تواصلك بالموقع، ونسأل الله تعالى أن يتداركك برحمة منه، يشرح بها صدرك للطاعة، ويعينك عليها.

ونحن نرى -أيها الحبيب- أنه لا يزال في قلبك خير، وأن النور الذي في قلبك لم ينطفئ بعد، وندعوك أن تستعجل وتستحث الخطى، وتُسرع إلى اغتنام ما بقي من هذا الخير والنور في قلبك، قبل أن ينطفئ هذا السراج، وتُظلم عليك الأمور، فالله سبحانه وتعالى يُقلِّب القلوب كيف يشاء، وقد قال جل شأنه في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ}، والرسول يقوﷺ كان يقول في دعائه: "يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ، ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ" [رواه مسلم].

فقلبك لا يزال فيه خير، وهذا الانزعاج من فعلك للذنب، وحرصك على التوبة والتشوق إليها، كله من آثار بقاء الخير في قلبك، فاحرص كل الحرص على استغلاله واستثماره، واحذر أن تتمادى وأن تستمر في طريق العصيان؛ فإن القلب يُظلم كلما أذنب صاحبه، كما أخبر الرسول الكريم ﷺ: "إذا أذْنَبَ العبدُ ذَنْبًا نُكِتَ في قلبِه نُكْتَةٌ سوداءُ، فإن تابَ ونَزَعَ واستغفرَ صُقِلَ قلبُهُ"[رواه الترمذي]، هكذا جاء الحديث عن الرسول ﷺ.

أمَّا قولك إنك غير قادر على التوبة، فهذا كلام غير صحيح على الإطلاق، ولا ينبغي أن تستسلم لهذا الشعور، فالتوبة أمرُها سهل يسير بإذن الله، فقط تحتاج إلى صدق في الالتجاء إلى الله، فإذا علم الله تعالى منك الصدق والحرص على التوبة، فإنه سيسّرها لك.

وممَّا يبعثُك ويُعينك على التوبة: أن تُدرك عواقب الذنوب ونهايات المعاصي؛ فالمعاصي وإن كانت لذيذة في بدايتها، إلَّا أن عواقبها وخيمة، وتودي بصاحبها إلى نهايات أليمة، والعاقل لا يرضى بلذّة ساعة مقابل عذاب طويل.

وممَّا يُسهل عليك التوبة أيضًا: أن تتذكر لقاء الله تعالى، والوقوف بين يديه للحساب والجزاء، وأن تتذكر النار وأهوالها وما فيها من الشدائد والغصص، وأن تتذكّر القبر وظلمته وضمته ووحشته، تذكّر هذه المواقف التي تنتظر الإنسان بعد موته، وهي قريبة جدًّا، كما قال النبي ﷺ: "الجَنَّةُ أَقْرَبُ إِلى أَحَدِكُمْ مِن شِرَاكِ نَعْلِهِ، وَالنَّارُ مِثْلُ ذَلِكَ" [رواه البخاري].

ننصحك بأن تستمع إلى المواعظ التي تذكّرك بالجنة والنار، ولقاء الله والحساب والجزاء؛ فهذ الوعظ من شأنه أن يحيي قلبك، وأن يدفعك إلى التوبة دفعًا، والتوبة ليست إلَّا ندماً على فعل المعصية بسبب توقع وخوف العقاب، وعزماً على عدم الرجوع للذنب في المستقبل، مع الإقلاع عنه في الحال، وهذه -كما ترى- أمور سهلة يسيرة هيّنة -بإذن الله تعالى- إذا سهّلها للإنسان وصدق مع ربه.

فاحرص كل الحرص على المبادرة والإسراع، ولا تؤخر التوبة، ولا تستجب لنداء الشيطان الذي يُمنّيك، ويدعوك إلى التسويف والتأخير والتأجيل، فالإنسان لا يدري متى تأتيه المنية ويوافيه الأجل، وكما قال الشاعر:
اغتنم في الفراغ فضل ركوعٍ *** فعسى أن يكون موتك بغتة
كم صحيحٍ مات من غير سُقمٍ *** ذهبت نفسه الصحيحة فلتة

وممَّا يُعينك على التوبة -أيها الحبيب-: مصاحبة الناس الطيبين والرجال الأخيار، أهل المساجد والصلاة، فإن الإنسان يتأثر بجليسه وصاحبه، و"المرءُ على دينِ خليلهِ، فلينظرْ أحدُكم من يُخالِلْ"، كما قال الرسول الكريم ﷺ، فاحرص على مصاحبة الطيبين وتواصل معهم، ومشاركتهم في أعمالهم؛ فإن ذلك يُهوِّن عليك الطاعة ويُيسّرها لك، وجاهد نفسك على فعل الطاعة وإن كانت شاقّة أو وجدت فيها مشقة في البداية، فإن الله وعد أن سيسهلها لك، كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}

أما الأعمال التي يُرضى الله بها عنك، فأولها: المحافظة على الفرائض، كما قال الله تعالى في الحديث القدسي: "وما تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بشيءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ" [رواه البخاري] ثم بعد الفرائض الإكثار من النوافل، فحافظ على الصلوات في وقتها، واقضِ ما عليك من الصيام، ولازم ذكر الله تعالى بقدر استطاعتك، وصاحب الأخيار، وستصل -بإذن الله- إلى ما ترجو وتتمنى.

وأمَّا عن سؤالك: هل هناك حالات أصيبت بما أصبتَ به وعادت إلى سابق عهدها؟ فالجواب: نعم، هناك حالات كثيرة جدًّا تفوق الحصر، ففتور الإنسان أمر طبيعي، ولكنَّ الإنسان الموفَّق هو من يُعالج هذا الفتور سريعًا، قبل أن يتمكّن منه ويبعده عن طريق الخير.

نسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته، أن يُيسّر لك الخير ويعينك عليه، وأن يوفقك لكل خير، ويثبتك على طاعته.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً