الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

وساوس كفرية حادة تفسد علي تركيزي وعباداتي!

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

لديّ وساوس كفرية شديدة، أعاني منها منذ مدة تصل إلى سنتين، وقبلها كنت مُصابة بوسواس قهري، كان شديداً، ولكنه أقل حدة مما هو عليه الآن، أنا أعاني كثيراً من هذا الوسواس؛ حيث إنه يأتيني عبر تخيُّل أمور كفرية أنا أفعلها -والعياذ بالله- ويقول لي: "إن أنتِ فعلتِ كذا فأنتِ تنوين الكفر، وكذا.." وكلما أسترجع أفكاري الكفرية -والعياذ بالله- لأعلم شعوري عندئذٍ حتى أطمئن أنني لا أتقبّلها، أجد وسوسة شك في شعوري، وأنني كنتُ أقصد ذلك، بينما أنا لا أقصد ذلك، ثم أشعر بالذنب لاسترجاعي لتلك الأفكار والتخيلات، وأتساءل: هل أكفر -والعياذ بالله- عند استرجاع تلك الأفكار، أو عند الاسترسال في الوساوس؟

أنا أفعل ذلك رغماً عني! أصبحت أشك في كل شيء، حتى في مشاعري، وخطواتي، وانفعالاتي، وأصبحت أراقب نفسي بشدة حتى تعبت، وحينما بدأت أتجاهل هذه الوساوس، أصبحت تأتيني أشدَّ حدة، حتى تفسد عليّ صلاتي وعباداتي؛ فأتمنى أن ترشدوني لحل للتخلص من هذا الوسواس، وأن تجيبوا عن أسئلتي، وهل يقع الكفر -والعياذ بالله- بذلك؟ مع العلم أنني مسلمة وأحب الله، وأبغض الكفر، لكن وقع الوساوس يكون شديداً!

لقد فقدت بسببها التركيز تماماً، وأصبحت كثيرة الشرود، وحتى وأنا أشغل نفسي أشرد كثيراً، أصبحت أستيقظ وأنا أهذي، والخيالات لا تتوقف، والوساوس تقل تارة وتشتد تارة أخرى، لقد أُصبت بالاكتئاب -ولست أيأس من روح الله -والعياذ بالله-- منذ سنوات، لكني لم أذهب لأي طبيب، أصبحت لدي الكثير من المشاكل الجسدية: آلام في الظهر، والقولون العصبي، وسَلَسُ بول، وريح، والتهاب مسالك بولية، وأثَّر كل ذلك فصرت مُقصِّرة جداً في كل شيء.

آسفة للإطالة، لكن أحببت أن تصل الصورة بوضوح لحصولكم على معلومات دقيقة، وسؤال أخير: أنا أدرس في مجال الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني؛ هل هو مجال نافع وأُكمل فيه؟

وشكراً لكم، وأعتذر عن الإطالة.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

أهلاً بكِ في موقعكِ (إسلام ويب)، ونحن نتفهم تماماً شدة ما تمرّين به، ما ذكرتِه ينطبق على حالة معروفة عند العلماء والأطباء معاً، وهي وسواس العقيدة، أو الوسواس القهري الديني، وهو ابتلاء ثقيل، لكنه لا يدل أبداً على سوء في الإيمان، بل يدل على وجوده؛ لذا دعينا نجيبكِ من خلال النقاط الآتية:

أولاً: حكم الوساوس الكفرية: الوساوس التي تتعلّق بالعقيدة، سواء جاءت على شكل أفكار قهرية، أو تخيّلات تقتحم الذهن، أو محاولات لا إرادية لاختبار الشعور، أو استرجاع للأفكار رغماً عنكِ، لا تُكفِّر ولا تُؤثِّم صاحبتها مهما اشتدّت، قد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إن الله تجاوز عن أمّتي ما وسوست به صدورها ما لم تعمل أو تتكلّم)، وهذا نصٌّ صريح بأن ما يجري داخل الصدر من وسوسة لا يُحاسب الإنسان عليه ما دام لم يختره ولم ينطق به راضياً مقتنعاً، بل إن النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما شكا بعض الصحابة شدّة الوساوس، أجابهم مُطمئناً: (ذاك صريح الإيمان)، ومعنى ذلك أن ضيق صدركِ من هذه الوساوس، وكراهيتكِ لها، وشعوركِ بالخوف منها، هو دليل على صدق الإيمان؛ لأن الكافر لا يستوحش من فكرة الكفر ولا يشعر بثقلها.

ثانياً: حقيقة ما تعانينه: الحالة التي تصفينها تنطبق تماماً على الوسواس القهري الديني، وهو اضطراب نفسي معروف تتدفق فيه الأفكار قَهْراً دون إذن من صاحبتها، ويُجبر الإنسان على:

• فحص النية في كل شيء.
• مراقبة الشعور بدقة مبالغ فيها.
• البحث داخل القلب عن قصد أو رغبة.
• استرجاع الأفكار لا إرادياً.
• تخيُّل صور أو عبارات مؤذية.
• الشك في أنه أراد ما لم يرده.

وهذه الأعراض مرضية وليست اختيارية، وهي لا تدل كما ذكرنا على ضعف إيمان، بل تدل على توتر نفسي، وعلى وجود اضطراب قهري يحتاج إلى أسلوب تعامل صحيح.

ثالثاً: هل يقع الكفر عند استرجاع الفكرة أو الاسترسال فيها؟
لا يمكن أن يقع الكفر في حالتكِ أبداً؛ لأن الكفر لا يتحقق شرعاً إلا إذا اجتمعت أربعة شروط:
1. الاختيار.
2. القصد.
3. الرضا.
4. العلم بما يقول أو يفعل.

على خلاف ما أنتِ عليه؛ لذا فلا تكفرين بها، حتى لو استرسلتِ معها قَهْراً، أو استرجعتها رغماً عن نفسكِ، أو شعرتِ أن قلبكِ اهتزّ، أو أن شعوركِ لم يكن واضحاً، كل ذلك داخل في عموم قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله تجاوز عن أمّتي ما وسوست به صدورها".

رابعاً: لماذا تشعرين بأن الأفكار مقصودة رغم أنكِ ترفضينها؟
هذه إحدى خُدَع الوسواس القهري المعروفة، الوسواس يبدأ بفكرة، ثم ينتقل مباشرة إلى التشكيك في الشعور:
• هل كنتُ أقصد؟
• هل رغبتُ؟
• هل وافقتُ داخلياً؟
• هل هذا الشعور يعني الكفر؟

ثم ينتقل إلى تفحّص أدقّ التفاصيل: طريقة التفكير، حركة الجسد، نظرة العين، انفعال عابر، استحضار نية غير واضحة، الوسواس يعتمد على "الضبابية الشعورية"، ويضرب دائماً في منطقة غير قابلة للتأكد، لكنّ هذا لا علاقة له بالواقع ولا بالإيمان، بل هو سلوك قهري يتكرر بسبب القلق.

خامساً: كيف تتعاملين مع الوسواس بشكل صحيح؟
هذه الخطوات هي جوهر العلاج:
1. إيقاف فحص النية: أسوأ شيء يمكن فعله مع الوسواس هو محاولة التأكد من النية، كلما حاولتِ التأكد، زاد الوسواس قوة.
2. تجاهل الفكرة بلا نقاش: عندما تأتي الوساوس، لا تطرديها ولا تحاربيها ولا تحلّليها؛ دعيها تمرّ، فالتجاهل هو العلاج، وليس المقاومة.
3. عدم إعادة العبادة: لا تعيدي الصلاة، أو الوضوء، أو أي عبادة بسبب الوسواس، ما دمتِ تفعلين العبادة بشكل طبيعي فهي صحيحة.
4. الحسم بعبارة واحدة: قولي بينكِ وبين نفسكِ: (هذا وسواس، ولا حكم له)، ثم انتقلي فوراً إلى عمل آخر.
5. تنظيم الحياة الجسدية: النوم الجيد، والتغذية المنتظمة، والمشي، وتقليل العزلة؛ كلها عوامل تساعد على إضعاف الوسواس.

وأما بالنسبة للتخصص، فهذا يحتاج إلى مختصة أكاديمية تعرفكِ وتعرف قدراتكِ، لذا نوصيكِ بزيارة مختصة والتحدث إليها مباشرة.

نسأل الله أن يحفظكِ، وأن يرعاكِ، والله الموفق.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأكثر مشاهدة

الأعلى تقيماً