الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

جواب شبهة حول قوله تعالى (كنتم خير أمة أخرجت للناس)

السؤال

نجابه بقول نصراني خبيث يقول عن الآية: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ. بأن الأمة الإسلامية كانت خير أمة والآن ليست كذلك, ولغوياً إعراب كان: فعل ماضي ناقص وهذا في الزمن المنقضي والذي أفل. فأرجو التكرم بإجابة شافية لنتمكن من الرد على هذا الكلام الخبيث؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فمبنى هذا الإشكال هو الاقتصار في معنى (كان) على المضي والانقطاع، وليس هذا بصحيح، فإن (كان) وإن كان معناه في الأصل المُضِيَّ، إلا أن لها معاني أخرى.

قال السيوطي في (الإتقان): "كان" فعل ناقص متصرف يرفع الاسم وينصب الخبر، ومعناه في الأصل المضي والانقطاع، نحو: { كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا }. وتأتي بمعنى الدوام والاستمرار، نحو: وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا. وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ. أي لم يزل كذلك... قال أبو بكر الرازي: كان في القرآن على خمسة أوجه، بمعنى الأزل والأبد، كقوله: وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا. وبمعنى المضي المنقطع، وهو الأصل في معناها، نحو: وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ .{النمل: 48}. وبمعنى الحال، نحو: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ {آل عمران:110}. إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى المُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا. {النساء:103} ... اهـ.

وذكر لها معاني أخرى، وقد سبق لنا بيان شيء من هذا في الفتوى رقم: 6457.

وينبغي أن يعلم أن الأمة الإسلامية الموصوفة بالخيرية هي التي تحقق الشرط المذكور في الآية: تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ. {آل عمران 110}. وهذه صفة سلف هذه الأمة، ولذلك جاء عن بعض المفسرين تخصيص طائفة من هذه الأمة بهذه الخيرية، كما قال ابن عباس: هم الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة. اهـ.

وقال السيوطي في (الدر المنثور): أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في الآية قال: قال عمر بن الخطاب: لو شاء الله لقال: أنتم فكنا كلنا، ولكن قال (كنتم) في خاصة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ومن صنع مثل صنيعهم، كانوا خير أمة أخرجت للناس. وأخرج ابن جرير عن قتادة قال: ذكر لنا أن عمر بن الخطاب قرأ هذه الآية ثم قال: يا أيها الناس من سره أن يكون من تلكم الأمة فليؤد شرط الله منها. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ. {آل عمران:110} يقول: على هذا الشرط أن تأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر وتؤمنوا بالله. اهـ.

ومع هذا التوجيه لا يصح أيضا أن يقال: إن غير هذه الأمة خير منها؛ لأنها وإن قصرت في تحقيق الشرط إلا أن غيرها أشد تقصيرا منها، فهي أولى الأمم بهذا الوصف برغم تقصيرها.

ولذلك قال ابن كثير: الصحيح أن هذه الآية عامةٌ في جميع الأمة، كل قَرْن بحسبه، وخير قرونهم الذين بُعثَ فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الذين يَلونهم، ثم الذين يلونهم، كما قال في الآية الأخرى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا أي: خيارا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ الآية. وفي مسند الإمام أحمد، وجامع الترمذي، وسنن ابن ماجه ، ومستدرك الحاكم، من رواية حكيم بن مُعَاوية بن حَيْدَة، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَنْتُمْ تُوفُونَ سَبْعِينَ أُمَّةً، أنْتُمْ خَيْرُهَا، وأنْتُمْ أكْرَمُ عَلَى اللهِ عزَّ وجَلَّ. وهو حديث مشهور، وقد حَسَّنه الترمذي. ويروى من حديث معاذ بن جبل، وأبي سعيد نحوه. وإنما حازت هذه الأمة قَصَبَ السَّبْق إلى الخيرات بنبيها محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه أشرفُ خلق الله وأكرم الرسل على الله، وبعثه الله بشرع كامل عظيم لم يُعْطه نبيًّا قبله ولا رسولا من الرسل. فالعمل على منهاجه وسبيله، يقوم القليلُ منه ما لا يقوم العملُ الكثيرُ من أعمال غيرهم مقامه، كما روى الإمام أحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أُعْطِيتُ مَا لَمْ يُعْطَ أَحَدٌ مِنْ الأنْبِيَاءِ. فقلنا: يا رسول الله، ما هو؟ قال: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ وَأُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الأرْضِ، وَسُمِّيتُ أَحْمَدَ، وَجُعِلَ التُّرَابُ لِي طَهُورًا، وَجُعِلَتْ أُمَّتِي خَيْرَ الأمَمِ. وإسناده حسن... وقد وردت أحاديثُ يناسب ذكرُها هاهنا. اهـ. وذكر جملة من الأحاديث في فضل هذه الأمة المباركة.

وأخيرا ننبه على أن الواجب في حق من يتصدى لنقاش النصارى ومحاورتهم أن يكون على قدر من العلم يمكنه من دفع الشبهات وبيان الباطل الذي عندهم، وإلا فلا يجوز لمن لم يكن كذلك أن يقدم على مناقشتهم ومجادلتهم لما يترتب على ذلك من الفتنة والإضعاف لموقف أهل الحق، كما سبق التنبيه عليه في الفتوى رقم: 40373.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني