الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

حكم قول: "خرج الرسول من مكة مذمومًا مدحورًا""سيظل مدح الأنصار ما ظل الله موجودًا"

السؤال

هل يجوز قول: خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة مذمومًا مدحورًا؟ وما حكم من يصرّ على قولها؟ وهل يجوز القول فيما يخص مدح الأنصار في سورة الحشر: سيظل هذا المدح موجودًا ما ظل الله موجودًا؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه، ومن والاه، أما بعد:

فالذم والدحر ـ وهو الطرد والإبعاد ـ في مثل هذه العبارة محل السؤال تعزى للمشركين من أهل مكة، فهم الذين أخرجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وذموه بغير حق، وهذا المعنى وإن كان صحيحًا في نفسه، إلا أن التعبير عنه بهذه الألفاظ مما يُستهجَن ويُقبَّح، ويلام صاحبه ويُخطَّأ؛ لأن هذا الوصف ـ مذمومًا مدحورًا ـ إنما جاء في القرآن لأهل النار الذين يؤثرون دنياهم على أخراهم، كما في قوله تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا {الإسراء: 18}.

وقريب منه وصف الشيطان الرجيم حين أخرج من الجنة وطرد من رحمة الله تعالى، كما في قوله سبحانه: قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ {الأعراف: 18}.
كما جاء كلا الوصفين مفردًا مع غيره من الصفات في بيان حال المشرك الهالك في جهنم، كما في قوله تعالى: لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا {الإسراء: 22}، وقوله: وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا {الإسراء: 39}.

وهذا الاستعمال القرآني المستقر في الأذهان يكفي للنهي عن هذه العبارة وتقبيحها، بل وحرمتها؛ لما في ذلك من الإيهام، وتفويت التعظيم الواجب في الكلام عن جناب النبي صلى الله عليه وسلم، وما فيه من الأذية لأسماع المسلمين الذين يعرفون الاستعمال القرآني لهذه الألفاظ.

ومن الجدير بالذكر أن كثيرًا من المصنفين في مفردات القرآن، يفسرون هذه الألفاظ على مقتضى الاستعمال القرآني، فتكون أوصاف ذم وتقبيح، بل إن منهم من عدَّها في الأسماء القبيحة لإبليس، كما قال الكفوي في الكليات: مدحورًا ـ مبعدًا من رحمة الله.. مذموم: مطرود عن الرحمة والكرامة. اهـ.

وقال الفيروزآبادي في بصائر ذوي التمييز: بصيرة في ذكر إبليس... وقد دعاه الله تعالى في القرآن العظيم بسبعين اسمًا قَبِيحًا: الأَوّل: الشَّيطان: كَمَثَلِ الشيطان... مَقْذُوفٌ مَدْحُورٌ: وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ دُحُورًا. اهـ.

وأمر آخر ينبغي لفت النظر إليه، وهو أن المشركين كانوا يسمون النبي صلى الله عليه وسلم مُذَمَّمًا بدل محمد، كما قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ألا تَعْجَبونَ كيفَ يَصْرِفُ اللهُ عني شتْمَ قُرَيْشٍ ولَعْنَهُم؟! يَشْتِمُونَ مُذَممًا، ويَلْعَنونَ مُذَممًا، وأنا محمدٌ. رواه البخاري، وغيره.

قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: كان الكفار من قريش من شدة كراهتهم في النبي صلى الله عليه وسلم لا يسمونه باسمه الدال على المدح، فيعدلون إلى ضده، فيقولون: مذمم، وإذا ذكروه بسوء قالوا: فعل الله بمذمم، ومذمم ليس هو اسمه، ولا يعرف به، فكان الذي يقع منهم في ذلك مصروفًا إلى غيره. اهـ.

ولا يخفى أن العبارة محل السؤال تجري على اللفظ الذي استعمله المشركون، فلا يصح أن نستعمله في حق النبي صلى الله لعيه وسلم، فإن الذم لا يكون إلا على قبيح، بخلاف اللوم فإنه قد يقع على الأمر الحسن، وهو المستعمل في قوله تعالى: وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا {الإسراء: 29}.

قال العسكري في معجم الفروق اللغوية: الفرق بين اللوم والذم: أن اللوم هو تنبيه الفاعل على موقع الضرر في فعلة، وتهجين طريقته فيه، وقد يكون اللوم على الفعل الحسن، كاللوم على السخاء، والذم لا يكون إلا على القبيح. اهـ.

وأما قوله تعالى في حق نبيه يونس عليه السلام: لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ {القلم: 49}، فهذا في الحقيقة نفي للذم لا إثبات له، قال السعدي: أي: لطرح في العراء ـ وهي الأرض الخالية ـ وَهُوَ مَذْمُومٌ ـ ولكن الله تغمده برحمته، فنبذ وهو ممدوح، وصارت حاله أحسن من حاله الأولى؛ ولهذا قال: فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ.. اهـ.

والخلاصة أن إطلاق هذه العبارة في حق النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز، ولا يليق بحاله ومقامه صلى الله عليه وسلم، بل اللائق أن يوصف بما ورد في القرآن بأنه خرج عليه الصلاة والسلام من مكة عليه السكينة محفوفًا بعناية الله تعالى وحفظه، مُؤَيَّدًا بجنود من عنده، كما قال تعالى: إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا {التوبة: 40}، وراجع لفائدة الفتوى رقم: 16302.

وأما السؤال الثاني: فجوابه أن البقاء المذكور إن كان المراد به بقاء معنى المدح وأثره في الآخرة، فهذا صحيح، وإن كان المراد به بقاء آيات القرآن في الأرض في الصدور أو المصاحف، فليس بصحيح؛ لأن القرآن في آخر الزمان يُسرَى عليه في ليلة، فلا يبقى في الأرض منه آية، وراجع في ذلك الفتوى رقم: 129619. هذا من حيث المعنى.

وأما لفظ العبارة فهو أيضًا مما يستهجن ويؤذي السمع، واللائق بالمسلم أن يتحرى في كلامه ويتخير ما لا ريبة فيه، ولا إيهام، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى: كل لفظ يحتمل حقًّا وباطلًا، فلا يطلق إلا مبينًا به المراد الحق دون الباطل، فقد قيل: أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء، وكثير من نزاع الناس في هذا الباب هو من جهة الألفاظ المجملة التي يفهم منها هذا معنى يثبته، ويفهم منها الآخر معنى ينفيه. اهـ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني