الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فأما السؤال الأول: فإنما يتجه إذا كانت مدة الخلق - طولًا أو قصرًا - متعلقة بحجم الخلق، أو سعته، أو تعقيده، أو دقته، أو نحو ذلك مما تتفاوت القدرة عليه في حق الناس. وأما الله تعالى فلم يخلق السماوات والأرض في الأيام الستة لعجزه - سبحانه وتعالى - عن خلقها في لحظة واحدة دفعة واحدة!! فليس الأمر كذلك، فلو أراد الله عز وجل خلقها في لحظة لفعل، فإنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له: كن، فيكون، ولكنه سبحانه أراد - كما قال القرطبي في تفسيره: أن يعلم العباد الرفق، والتثبت في الأمور .. وحكمة أخرى: خلقها في ستة أيام؛ لأن لكل شيء عنده أجلًا. وبين بهذا ترك معاجلة العصاة بالعقاب؛ لأن لكل شيء عنده أجلًا، وهذا كقوله: {ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب. فاصبر على ما يقولون}، بعد أن قال: {وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشًا}. اهـ.
وقال أبو السعود في إرشاد العقل السليم: في خلق الأشياء مدرجًا مع القدرة على إبداعها دفعة، دليلٌ على الاختيار، واعتبارٌ للنظار، وحثٌّ على التأني في الأمور. اهـ.
وقال ابن الجوزي في زاد المسير: فإن قيل: فهلا خلقها في لحظة، فإنه قادر؟ فعنه خمسة أجوبة:
أحدها: أنه أراد أن يوقع في كل يوم أمرًا تستعظمه الملائكة، ومن يشاهده، ذكره ابن الأنباري.
والثاني: أنه التثبت في تمهيد ما خُلق لآدم وذريته قبل وجوده، أبلغ في تعظيمه عند الملائكة.
والثالث: أن التعجيل أبلغ في القدرة، والتثبيت أبلغ في الحكمة، فأراد إظهار حكمته في ذلك، كما يظهر قدرته في قوله: {كن فيكون}.
والرابع: أنه علّم عباده التثبت، فإذا تثبت مَنْ لا يَزِلُّ، كان ذو الزلل أولى بالتثبت.
والخامس: أن ذلك الإمهال في خلق شيء بعد شيء، أبعد من أن يظن أن ذلك وقع بالطبع، أو بالاتفاق. اهـ.
وإذا كان الأمر كذلك؛ فلا يصح أن يقال: لماذا خلق السماوات برغم كبرها في يومين، وخلق الأرض برغم صغرها في أربعة؟! وهذا على التسليم بتفصيل هذه المدد، وإلا فهذا موضع خلاف ونظر.
وعلى أية حال؛ فالأليق والأقرب للفهم أن ما يتعلق بالمكلفين - وهو الأرض التي يعيشون عليها - يكون محلًّا للاهتمام الزائد، والمبالغة في إثبات الحكمة؛ لأن هذا هو المتعلق المباشر بهم؛ ولهذا قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ {الجاثية:12-13}.
فكأن هذا الخلق المحكم بالتسخير من الله تعالى غايته استخراج عبادتي الشكر، والتفكر، المؤدي لزيادة الإيمان، ومعرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته، قال تعالى: أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً {لقمان:20}، وقال سبحانه: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ {الحج: 65}، وانظر للفائدة الفتويين: 22344، 190003.
وهذا نفسه هو المدخل لجواب السؤال الثاني، فالأرض وإن كانت لا تمثل في سعة الكون حبة رمل في صحراء، إلا أنها بالنسبة للإنسان هي مستقره الذي يحيى فيه، ولا يستطيع العيش دونه، فالتنويه بذكرها تذكير مباشرة بشيء محسوس لجميع بني آدم، وهو أدعى للامتنان، وشكر الله تعالى؛ ولذلك كان من المناسب أن يكون اهتمام القرآن بالحديث عنها أكبر، وأعظم من غيرها من أجزاء الكون الواسع الفسيح، كما سبق أن أشرنا إليه في الفتوى: 128648.
وإذا تبين هذا؛ اتضح أن الكلام الذي بدأ به السائل لا يتعارض مع القرآن، وأن تصديقه لا يعتبر تكذيبًا للقرآن!
والله أعلم.