الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فليس واحد من الأئمة الأربعة قائلاً بخلق القرآن، بل معتقدهم في ذلك معتقد السلف الصالح أجمع أن القرآن كلام الله غير مخلوق، غير أن الرازي -رحمه الله- بعد إثباته أن القرآن كلام الله عاد فقال: إن المراد بكلام الله المعنى النفسي، وهذا هو مذهب الأشاعرة، والرازي رأس من رؤوسهم، وقد قرر الرازي ذلك في أكثر كتبه، ومن ذلك كتابه في التفسير، وكذا المطالب العالية في العلوم الإلهية، ولمعرفة كلام الأشاعرة في كلام الله، انظر الفتوى: 19390.
وأما البخاري والنووي والعسقلاني، فكلامهم في المسألة كلام السلف، وننقل لك من أقوالهم ما يثبت ذلك ويقرره.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتابه المسمى فتح الباري شرح صحيح البخاري: والمحفوظ عن جمهور السلف ترك الخوض في ذلك والتعمق فيه، والاقتصار على القول بأن القرآن كلام الله، وأنه غير مخلوق، ثم السكوت عما وراء ذلك. اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر 13/492: وقال البيهقي في كتاب الأسماء والصفات: مذهب السلف والخلف من أهل الحديث والسنة أن القرآن كلام الله، وهو صفة من صفات ذاته، وأما التلاوة، فهم على طريقتين: منهم من فرق بين التلاوة والمتلو، ومنهم من أحب ترك القول فيه، وأما ما نقل عن أحمد بن حنبل أنه سوى بينهما، فإنما أراد حسم المادة لئلا يتذرع أحد إلى القول بخلق القرآن، ثم أسند من طريقتين إلى أحمد أنه أنكر على من نقل عنه أنه قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق، وأنكر على من قال: لفظي بالقرآن مخلوق، وقال القرآن كيف تصرف غير مخلوق.
وقال: ظن بعضهم أن البخاري خالف أحمد وليس كذلك، بل من تدبر كلامه لم يجد فيه خلافا معنويا، لكن العالم من شأنه إذا ابتلي في رد بدعة، يكون أكثر كلامه في ردها دون ما يقابلها، فلما ابتلي أحمد بمن يقول: القرآن مخلوق كان أكثر كلامه في الرد عليهم حتى بالغ فأنكر على من يقف ولا يقول مخلوق ولا غير مخلوق، وعلى من قال: لفظي بالقرآن مخلوق لئلا يتذرع بذلك من يقول: القرآن بلفظي مخلوق، مع أن الفرق بينهما لا يخفى عليه، لكنه قد يخفى على البعض، وأما البخاري، فابتلي بمن يقول: أصوات العباد غير مخلوقة، حتى بالغ بعضهم فقال: والمداد والورق بعد الكتابة فكان أكثر كلامه في الرد عليهم، وبالغ في الاستدلال بأن أفعال العباد مخلوقة بالآيات والأحاديث، وأطنب في ذلك حتى نسب إلى أنه من اللفظية مع أن قول من قال إن الذي يسمع من القارئ هو الصوت القديم لا يعرف عن السلف ولا قاله أحمد ولا أئمة أصحابه، وإنما سبب نسبة ذلك لأحمد قوله: من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، فظنوا أنه سوى بين اللفظ والصوت، ولم ينقل عن أحمد في الصوت ما نقل عنه في اللفظ، بل صرح في مواضع بأن الصوت المسموع من القارئ هو صوت القارئ، ويؤيده حديث زينوا القرآن بأصواتكم، وسيأتي قريبا، والفرق بينهما أن اللفظ يضاف إلى المتكلم به ابتداء، فيقال عمن روى الحديث بلفظه هذا لفظه، ولمن رواه بغير لفظه هذا معناه ولفظه كذا، ولا يقال في شيء من ذلك هذا هو صوته، فالقرآن كلام الله لفظه ومعناه ليس هو كلام غيره، وأما قوله تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (الحاقة: 40). فاختلف هل المراد جبريل أو الرسول عليهما الصلاة والسلام، فالمراد به التبليغ، لأن جبريل مبلغ عن الله تعالى إلى رسوله، والرسول صلى الله عليه وسلم مبلغ للناس، ولم ينقل عن أحمد قط أن فعل العبد قديم ولا صوته، وإنما أنكر إطلاق اللفظ وصرح البخاري بأن أصوات العباد مخلوقة، وأن أحمد لا يخالف ذلك، فقال في كتاب خلق أفعال العباد ما يدعونه عن أحمد ليس الكثير منه بالبين، ولكنهم لم يفهموا مراده ومذهبه، والمعروف عن أحمد وأهل العلم أن كلام الله تعالى غير مخلوق وما سواه مخلوق، لكنهم كرهوا التنقيب عن الأشياء الغامضة وتجنبوا الخوض فيها والتنازع إلا ما بينه الرسول عليه الصلاة والسلام.
ثم قال الحافظ: ومحصل ما نقل عن أهل الكلام في هذه المسألة خمسة أقوال:
الأول: قول المعتزلة إنه مخلوق.
والثاني: قول الكلابية إنه قديم قائم بذات الرب ليس بحروف ولا أصوات، والموجود بين الناس عبارة عنه لا عينه.
والثالث: قول السالمية إنه حروف وأصوات قديمة الأعين وهو عين هذه الحروف المكتوبة والأصوات المسموعة.
والرابع: قول الكرامية إنه محدث لا مخلوق وسيأتي بسط القول فيه في الباب الذي بعده.
والخامس: أنه كلام الله غير مخلوق، وأنه لم يزل يتكلم إذا شاء، نص على ذلك أحمد في كتاب الرد على الجهمية، وافترق أصحابه فرقتين: منهم من قال: هو لازم لذاته، والحروف والأصوات مقترنة لا متعاقبة، ويسمع كلامه من شاء، وأكثرهم قالوا: إنه متكلم بما شاء، متى شاء، وأنه نادى موسى عليه السلام حين كلمه، ولم يكن ناداه من قبل، والذي استقر عليه قول الأشعرية أن القرآن كلام الله غير مخلوق، مكتوب في المصاحف، محفوظ في الصدور، مقروء بالألسنة. قال الله تعالى: فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ (التوبة: 6). وقال تعالى: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ (العنكبوت: 46).
وفي الحديث المتفق عليه عن ابن عمر كما تقدم في الجهاد لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو كراهية أن يناله العدو، وليس المراد ما في الصدور، بل ما في الصحف، وأجمع السلف على أن الذي بين الدفتين كلام الله، وقال بعضهم القرآن يطلق ويراد به المقروء وهو الصفة القديمة، ويطلق ويراد به القراءة، وهي الألفاظ الدالة على ذلك، وبسبب ذلك وقع الاختلاف، وأما قولهم إنه منزه عن الحروف والأصوات، فمرادهم الكلام النفسي القائم بالذات المقدسة، فهو من الصفات الموجودة القديمة، وأما الحروف فإن كانت حركات أدوات كاللسان والشفتين، فهي أعراض، وإن كانت كتابة فهي أجسام، وقيام الأجسام والأعراض بذات الله تعالى محال، ويلزم من أثبت ذلك أن يقول بخلق القرآن وهو يأبى ذلك ويفر منه، فألجأ ذلك بعضهم إلى ادعاء قدم الحروف، كما التزمته السالمية، ومنهم من التزم قيام ذلك بذاته، ومن شدة اللبس في هذه المسألة كثر نهي السلف عن الخوض فيها واكتفوا باعتقاد أن القرآن كلام الله غير مخلوق، ولم يزيدوا على ذلك شيئا وهو أسلم الأقوال والله المستعان.
وقال 13/498: قال البخاري: والقرآن كلام الله غير مخلوق، ثم ساق الكلام على ذلك إلى أن قال: سمعت عبيد الله بن سعيد يقول: سمعت يحيى بن سعيد يعني القطان يقول: ما زلت أسمع أصحابنا يقولون إن أفعال العباد مخلوقة، قال البخاري: حركاتهم وأصواتهم وأكسابهم وكتابتهم مخلوقة، فأما القرآن المتلو المبين المثبت في المصاحف المسطور المكتوب الموعى في القلوب فهو كلام لله، ليس بخلق، قال: وقال إسحاق بن إبراهيم يعني بن راهويه: فأما الأوعية، فمن يشك في خلقها قال البخاري: فالمداد والورق ونحوه خلق، وأنت تكتب الله فالله في ذاته هو الخالق، وخطك من فعلك وهو خلق لأن كل شيء دون الله هو بصنعه. اهـ.
وقال الإمام النووي في شرح مسلم: وأما النصيحة لكتابه سبحانه وتعالى، فالإيمان بأنه كلام الله تعالى وتنزيله لا يشبهه شيء من كلام الخلق ولا يقدر على مثله أحد من الخلق، ثم تعظيمه وتلاوته حق تلاوته وتحسينها، والخشوع عندها، وإقامة حروفه في التلاوة والذب عنه لتأويل المحرفين وتعرض الطاعنين، والتصديق بما فيه، والوقوف مع أحكام علومه وأمثاله، والاعتبار بمواعظه والتفكر في عجائبه، والعمل بمحكمه والتسليم لمتشابهه، والبحث عن عمومه وخصوصه وناسخه ومنسوخه، ونشر علومه والدعاء إليه. اهـ.
وانظر الفتويين: 3988، 29238.
والله أعلم.