[ ص: 256 ] المسألة السادسة عشرة
اختلفوا في انقراض العصر ، هل هو شرط في انعقاد الإجماع أو لا ؟
فذهب أكثر أصحاب ، الشافعي وأبي حنيفة والأشاعرة والمعتزلة إلى أنه ليس بشرط ، وذهب ، والأستاذ أحمد بن حنبل أبو بكر بن ذفورك إلى اعتباره شرطا .
ومن الناس من فصل وقال : إن كان قد اتفقوا بأقوالهم أو أفعالهم أو بهما ، لا يكون انقراض العصر شرطا .
وإن كان الإجماع بذهاب واحد من أهل الحل والعقد إلى حكم وسكت الباقون عن الإنكار مع اشتهاره فيما بينهم ، فهو شرط ، وهذا هو المختار .
لكن قد احتج القائلون بعدم الاشتراط بمسلكين ضعيفين لا بد من الإشارة إليهما ووجه ضعفهما ، ثم نذكر بعد ذلك ما هو المختار .
المسلك الأول : أنهم قالوا : وقع الإجماع على كون الإجماع حجة بعد انقراض العصر إذا لم يوجد لهم مخالف ، فالحجة إما أن تكون في نفس الاتفاق أو نفس انقراض العصر أو مجموع الأمرين .
لا جائز أن يقال بالثاني ، وإلا كان انقراض العصر دون الاتفاق حجة وهو محال ، ولا جائز أن يقال بالثالث وإلا كان موتهم مؤثرا في جعل أقوالهم حجة وهو محال كما في موت النبي عليه السلام ، فلم يبق سوى الأول ، وهو ثابت قبل انقراض العصر وذلك هو المطلوب .
ولقائل أن يقول : ما المانع أن تكون الحجة في اتفاقهم مشروطا بعدم المخالف لهم في عصرهم .
ولا يخفى أن دعوى إحالة ذلك غير محل النزاع ، ولا يلزم من عدم اشتراط عدم مخالفة النبي عليه السلام في صحة الاحتجاج بقوله عدم اشتراط ذلك فيما نحن فيه إذ هو تمثيل جامع صحيح ، كيف والفرق حاصل من جهة أن قول النبي مستند إلى الوحي على ما قال تعالى : ( وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ) ، وقول غيره ليس عن وحي حتى يقع في مقابلة قوله ، وأما قول غيره فمستند إلى الاجتهاد ، وقول المخالف له أيضا مستند إلى الاجتهاد ، وليس أحدهما أولى من الآخر فافترقا .
[ ص: 257 ] المسلك الثاني : هو أن القول باشتراط انقراض العصر يفضي إلى عدم تحقق الإجماع مطلقا مع كونه حجة متبعة ، وكل شرط أفضى إلى إبطال المشروط المتفق على تحقيقه كان باطلا .
وبيان ذلك أن من اشترط انقراض العصر جوز لمن حدث من التابعين لأهل ذلك العصر إذا كان من أهل الاجتهاد مخالفتهم ، وشرط في صحة إجماعهم موافقته لهم ، وإذا صار التابعي من أهل الإجماع فقد لا ينقرض عصرهم حتى يحدث تابع التابعي .
والكلام فيه كالكلام في الأول وهلم جرا إلى يوم القيامة ، ومع ذلك فلا يكون الإجماع متحققا في عصر من الأعصار .
ولقائل أن يقول : القائلون باشتراط انقراض العصر اختلفوا في ، فذهب إدخال من أدرك المجمعين من التابعين لهم في إجماعهم إلى أنه لا مدخل للتابعي في إجماع أهل ذلك العصر في إحدى الروايتين عنه ، مع أنه يشترط انقراض العصر . أحمد بن حنبل
وفائدة اشتراطه لذلك إمكان رجوع المجمعين أو بعضهم عما حكموا به أولا لا لجواز وجود مجتهد آخر ، وعلى هذا فالإشكال يكون مندفعا .
وبتقدير تسليم دخول التابع لهم في إجماعهم فلا يمتنع أن يكون الشرط هو انقراض عصر المجمعين عند حدوث الحادثة ، واعتبار موافقة من أدرك ذلك العصر من المجتهدين لا عصر من أدرك عصرهم ، وعلى هذا فالإشكال لا يكون متجها .
والمعتمد في ذلك أن يقال : إذا اتفق إجماع أمة عصر [1] من الأعصار على حكم حادثة ، فهم كل الأمة بالنسبة إلى تلك المسألة وتجب عصمتهم في ذلك عن الخطأ على ما سبق من النصوص في مسألة إثبات كون الإجماع حجة ، وذلك غير متوقف على انقراض عصرهم .
هذا فيما إذا اتفقوا على الحكم بأقوالهم أو أفعالهم أو بهما ، وأما إن وإن كان الظاهر الموافقة على ما سبق تقريره ، فذلك مما لا يمنع من إظهار بعضهم [ ص: 258 ] المخالفة في وقت آخر لاحتمال أن يكون في مهلة النظر ، وقد ظهر له الدليل عند ذلك ، ويدل على ظهور هذا الاحتمال إظهاره للمخالفة ، فإنه لو كان سكوته عن موافقة ودليل لكان الظاهر عدم مخالفته لذلك الدليل . حكم واحد بحكم وانتشر حكمه فيما بينهم وسكتوا عن الإنكار
وأما إن حدث تابعي مخالف مع إصرار الباقين على السكوت ، فالظاهر أنه لا يعتد بمخالفته في مقابلة الإجماع الظاهر .
احتج المخالفون بالنص والآثار والمعقول ، أما النص فقوله تعالى : ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ) ووجه الدلالة أنه جعلهم حجة على الناس ، ومن جعل إجماعهم مانعا لهم من الرجوع فقد جعلهم حجة على أنفسهم .
وأما الآثار فمنها ما روي عن علي عليه السلام أنه قال : اتفق رأيي ورأي عمر على أن لا تباع أمهات الأولاد ، والآن فقد رأيت بيعهن - أظهر الخلاف بعد الوفاق - ودليله قول : رأيك مع الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك ، وقول عبيدة السلماني عبيدة دليل سبق الإجماع .
ومنها أن عمر خالف ما كان عليه أبو بكر والصحابة في زمانه من التسوية في القسم ، وأقره الصحابة أيضا على ذلك .
ومنها أن عمر حد الشارب ثمانين ، وخالف ما كان أبو بكر والصحابة عليه من الحد أربعين .