الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          المسألة الخامسة

          يجوز تخصيص عموم القرآن بالسنة ، أما إذا كانت السنة متواترة فلم أعرف فيه خلافا ، ويدل على جواز ذلك ما مر من الدليل العقلي .

          وأما إذا كانت السنة من أخبار الآحاد ، فمذهب الأئمة الأربعة جوازه ، ومن الناس من منع ذلك مطلقا ، ومنهم من فصل ، وهؤلاء اختلفوا فذهب عيسى بن أبان إلى أنه إن كان قد خص بدليل مقطوع به جاز تخصيصه بخبر الواحد ، وإلا فلا .

          وذهب الكرخي إلى أنه إن كان قد خص بدليل منفصل لا متصل جاز تخصيصه بخبر الواحد وإلا فلا ، وذهب القاضي أبو بكر إلى الوقف .

          والمختار مذهب الأئمة ، ودليله العقل والنقل .

          أما النقل فهو أن الصحابة خصوا قوله - تعالى - : ( وأحل لكم ما وراء ذلكم ) بما رواه أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قوله : " لا تنكح المرأة على عمتها ولا خالتها " [1] .

          وخصوا قوله - تعالى - : ( يوصيكم الله في أولادكم ) الآية ، بقوله - صلى الله عليه وسلم - : " لا يرث القاتل [2] ، ولا يرث الكافر من المسلم ، ولا المسلم من الكافر " . [3]

          [ ص: 323 ] وبما رواه أبو بكر من قوله - صلى الله عليه وسلم - : " نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة " [4] ، وخصوا قوله - تعالى - : ( كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك ) بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه جعل للجدة السدس [5] ، وخصوا قوله - تعالى - : ( وأحل الله البيع ) بما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن بيع الدرهم بالدرهمين . [6]

          ، وخصوا قوله - تعالى - : ( والسارق والسارقة ) وأخرجوا منه ما دون النصاب بقوله - صلى الله عليه وسلم - : " لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا " [7] ، وخصوا قوله - تعالى - : ( اقتلوا المشركين ) بإخراج المجوس منه بما روي عنه - عليه السلام - أنه قال : " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " إلى غير ذلك من الصور المتعددة ، ولم يوجد لما فعلوه نكير فكان ذلك إجماعا .

          والوقوع دليل الجواز وزيادة .

          وأما المعقول : فما ذكرناه فيما تقدم في تخصيص الكتاب بالكتاب .

          فإن قيل : ما ذكرتموه من التخصيص في الصور المذكورة لا نسلم أن تخصيصها كان بخبر الواحد ، ويدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم : " إذا روي عني حديث فاعرضوه على كتاب الله فما وافقه فاقبلوه وما خالفه فردوه " والخبر فيما نحن فيه مخالف للكتاب فكان مردودا . [8] .

          [ ص: 324 ] قولهم : إن الصحابة أجمعوا على ذلك إن لم يصح فليس بحجة ، وإن صح فالتخصيص بإجماعهم عليه لا بخبر الواحد .

          كيف وإنه لا إجماع على ذلك ؟ [ ص: 325 ] ويدل عليه ما روي عن عمر بن الخطاب أنه كذب فاطمة بنت قيس فيما روته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يجعل لها سكنى ولا نفقة ، لما كان ذلك مخصصا لعموم قوله - تعالى - : ( أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ) وقال : كيف نترك كتاب ربنا وسنة نبينا بقول امرأة ؟ [9]

          وإن سلمنا الإجماع على أن التخصيص كان بخبر الواحد ، لكن ليس في ذلك ما يدل على أن قول الواحد بمجرده مخصص ، بل ربما قامت الحجة عندهم على صدقه وصحة قوله بقرائن وأدلة اقترنت بقوله فلا يكون مجرد إخباره حجة .

          وأما ما ذكرتموه من المعقول ، فنقول : خبر الواحد ، وإن كان نصا في مدلوله نظرا إلى متنه غير أن سنده مظنون محتمل للكذب بخلاف القرآن المتواتر ، فإنه قطعي السند وقطعي في دلالته على كل واحد من الآحاد الداخلة فيه لما بيناه في المسألة المتقدمة ، فلا يكون خبر الواحد واقعا في معارضته كما في النسخ .

          وإن سلمنا أن العموم ظني الدلالة بالنسبة إلى آحاده ، لكن متى إذا خص بدليل مقطوع على ما قاله عيسى بن أبان أو بدليل منفصل على ما قاله الكرخي أو قبل التخصيص ؟ الأول مسلم لكونه صار مجازا ظنيا ، والثاني ممنوع لبقائه على حقيقته ، وعند ذلك فيمتنع التخصيص بخبر الواحد مطلقا لترجيح العام عليه قبل التخصيص ، بكونه قاطعا في متنه وسنده .

          [ ص: 326 ] وإن سلمنا أن دلالة العام بالنظر إلى متنه ظنية مطلقا غير أنه قطعي السند والخبر ، وإن كان قاطعا في متنه فظني في سنده فقد تقابلا وتعارضا ووجب التوقف على دليل خارج لعدم أولوية أحدهما كما قاله القاضي أبو بكر .

          والجواب قد بينا أن الصحابة أجمعوا على تخصيص العمومات بأخبار الآحاد حيث إنهم أضافوا التخصيص إليها من غير نكير فكان إجماعا .

          وما ذكروه من الخبر ، فإنما يمنع من تخصيص عموم القرآن بالخبر أن لو كان الخبر المخصص مخالفا للقرآن ، وهو غير مسلم ، بل هو مبين للمراد منه فكان مقررا لا مخالفا ، ويجب اعتقاد ذلك حتى لا يفضي إلى تخصيص [10] ما ذكروه من الخبر بالخبر المتواتر من السنة ، فإنه مخصص للقرآن من غير خلاف .

          قولهم : إن صح إجماع الصحابة فالتخصيص بإجماعهم لا بالخبر ليس كذلك ، فإن إجماعهم لم يكن على تخصيص تلك العمومات مطلقا ، بل على تخصيصها بأخبار الآحاد ، ومهما كان التخصيص بأخبار الآحاد مجمعا عليه فهو المطلوب .

          وأما ما ذكروه من تكذيب عمر لفاطمة بنت قيس فلم يكن ذلك لأن خبر الواحد في تخصيص العموم مردود عنده ، بل لتردده في صدقها ولهذا قال : كيف نترك كتاب ربنا وسنة نبينا بقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت ؟ ولو كان خبر الواحد في ذلك مردودا مطلقا لما احتاج إلى هذا التعليل .

          قولهم : لم يكن إجماعهم على ذلك لمجرد خبر الواحد .

          قلنا : ونحن لا نقول بأن مجرد خبر الواحد يكون مقبولا ، بل إنما يقبل إذا كان مغلبا على الظن صدقه ، ومع ذلك فالأصل عدم اعتبار ما سواه في القبول .

          قولهم : إن سند الخبر ظني مسلم ، ولكن لا نسلم أن دلالة العموم على الآحاد الداخلة فيه قطعية ، لاحتماله للتخصيص بالنسبة إلى أي واحد منها قدر ، وسواء كان قد خص أو لم يكن على ما سبق بيانه .

          [ ص: 327 ] وأما النسخ فلا نسلم امتناعه بخبر الواحد ، وبتقدير التسليم فلأن النسخ رفع للحكم بعد إثباته بخلاف التخصيص ؛ لأنه بيان لا رفع فلا يلزم مع ذلك من امتناع النسخ به امتناع التخصيص .

          وما ذكروه من السؤال الأخير في جهة التعارض ، فجوابه أن احتمال الضعف في خبر الواحد من جهة كذبه ، وفي العام من جهة جواز تخصيصه ، ولا يخفى أن احتمال الكذب في حق من ظهرت عدالته أبعد من احتمال التخصيص العام .

          ولهذا كانت أكثر العمومات مخصصة ، وليس أكثر أخبار العدول كاذبة فكان العمل بالخبر أولى ، ولأنه لو عمل بعموم العام لزم إبطال العمل بالخبر مطلقا ، ولو عمل بالخبر لم يلزم منه إبطال العمل بالعام مطلقا لإمكان العمل به فيما سوى صورة التخصيص ، والجمع بين الدليلين ولو من وجه أولى من تعطيل أحدهما ، ولأن العمل بالعام إبطال للخاص ، والعمل بالخاص بيان للعام لا إبطال له .

          ولا يخفى أن البيان أولى من الإبطال .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية