[ ص: 19 ] المسألة الأولى
اختلف الناس في اللفظ المشترك [1] ، هل له وجود في اللغة ، فأثبته قوم ونفاه آخرون ، والمختار جوازه ووقوعه .
أما الجواز العقلي فهو أنه لا يمتنع عقلا أن يضع واحد من أهل اللغة لفظا واحدا على معنيين مختلفين بالوضع الأول على طريق البدل ويوافقه عليه الباقون ، أو أن يتفق وضع إحدى القبيلتين للاسم على معنى حقيقة ، ووضع الأخرى له بإزاء معنى آخر من غير شعور لكل واحدة بما وضعته الأخرى ، ثم يشتهر الوضعان ويخفى سببه وهو الأشبه ، ولو قدر ذلك لما لزم من فرض وقوعه محال عقلا ، كيف وإن وضع اللفظ تابع لغرض الواضع ، والواضع كما أنه قد يقصد تعريف الشيء لغيره مفصلا فقد يقصد تعريفه مجملا غير مفصل ؛ إما لأنه علمه كذلك ولم يعلمه مفصلا ، أو لمحذور يتعلق بالتفصيل دون الإجمال ، فلا يبعد لهذه الفائدة منهم وضع لفظ يدل عليه من غير تفصيل .
وأما بيان الوقوع فقد قال قوم : إنه لو لم تكن الألفاظ المشتركة واقعة في اللغة مع أن المسميات غير متناهية والأسماء متناهية ضرورة تركبها من الحروف المتناهية ; لخلت أكثر المسميات عن الألفاظ الدالة عليها مع دعوة الحاجة إليها ، وهو ممتنع وغير سديد من حيث إن الأسماء وإن كانت مركبة من الحروف المتناهية فلا يلزم أن تكون متناهية ، إلا أن يكون ما يحصل من تضاعيف التركيبات متناهية وهو غير مسلم .
وإن كانت الأسماء متناهية فلا نسلم أن المسميات المتضادة والمختلفة - وهي التي يكون اللفظ مشتركا بالنسبة إليها - غير متناهية .
[ ص: 20 ] وإن كانت غير متناهية ، غير أن وضع الأسماء على مسمياتها مشروط بكون كل واحد من المسميات مقصودا بالوضع وما لا نهاية له مما يستحيل فيه ذلك ، ولئن سلمنا أنه غير ممتنع ، ولكن لا يلزم من ذلك الوضع .
ولهذا فإن كثيرا من المعاني لم تضع العرب بإزائها ألفاظا تدل عليها لا بطريق الاشتراك ولا التفصيل كأنواع الروائح وكثير من الصفات .
وقال أبو الحسين البصري : " أطلق أهل اللغة اسم القرء على الطهر والحيض وهما ضدان ، فدل على وقوع الاسم المشترك في اللغة " .
[2] ولقائل أن يقول : القول بكونه مشتركا غير منقول عن أهل الوضع ، بل غاية المنقول اتحاد الاسم وتعدد المسمى ، ولعله أطلق عليهما باعتبار معنى واحد مشترك بينهما ، لا باعتبار اختلاف حقيقتهما ، أو أنه حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر ، وإن خفي موضع الحقيقة والمجاز ، وهذا [3] هو الأولى .
إما بالنظر إلى الاحتمال الأول ، فلما فيه من نفي التجوز والاشتراك .
وإما بالنظر إلى الاحتمال الثاني ؛ فلأن التجوز أولى من الاشتراك كما يأتي في موضعه .
والأقرب في ذلك أن يقال : اتفق إجماع الكل على إطلاق اسم الموجود على القديم [4] والحادث حقيقة ، ولو كان مجازا في أحدهما لصح نفيه إذ هو أمارة المجاز وهو ممتنع ، وعند ذلك فإما أن يكون اسم الموجود دالا على ذات الرب تعالى ، أو على صفة زائدة على ذاته ، فإن كان الأول فلا يخفى أن ذات الرب تعالى مخالفة بذاتها لما سواها من الموجودات الحادثة [5] ، وإلا لوجب الاشتراك بينها وبين ما شاركها في معناها في الوجوب [6] ضرورة التساوي في مفهوم [ ص: 21 ] الذات
[7] وهو محال . وإن كان مدلول اسم الوجود صفة زائدة على ذات الرب تعالى ، فإما أن يكون المفهوم منه هو المفهوم من اسم الوجود في الحوادث وإما خلافه ، والأول يلزم منه أن يكون مسمى الوجود في الممكن واجبا لذاته ضرورة أن وجود الباري تعالى واجب لذاته ، أو أن يكون وجود الرب ممكنا ضرورة إمكان وجود ما سوى الله تعالى وهو محال ، وإن كان الثاني لزم منه الاشتراك وهو المطلوب .
فإن قيل : المقصود من وضع الألفاظ إنما هو التفاهم وذلك غير متحقق مع الاشتراك من حيث إن فهم المدلول منه ضرورة تساوي النسبة [8] غير معلوم من اللفظ والقرائن فقد تظهر وقد تخفى ، وبتقدير خفائها يختل المقصود من الوضع وهو الفهم .
قلنا : وإن اختل فهم التفصيل على ما ذكروه فلا يختل معه الفهم في جهة الجملة كما سبق تقريره ، وليس فهم التفصيل لغة من الضروريات بدليل وضع أسماء الأجناس ، فإنها لا تفيد تفاصيل ما تحتها ، وإن سلمنا أن الفائدة المطلوبة إنما هي [ ص: 22 ] فهم التفصيل ، فإنما يمنع ذلك من وضع الألفاظ المشتركة إن لو لم تكن مفيدة لجميع مدلولاتها بطريق العموم ، وليس كذلك على ما ذهب إليه القاضي رضي الله عنه كما سيأتي تحقيقه . والشافعي
[9] وإذا عرف وقوع الاشتراك لغة ، فهو أيضا واقع في كلام الله تعالى ، والدليل عليه قوله تعالى : ( والليل إذا عسعس ) فإنه مشترك بين إقبال الليل وإدباره ، وهما ضدان ، هكذا ذكره صاحب الصحاح .
وما يقوله المانع لذلك " من أن المشترك إن كان المقصود منه الإفهام ، فإن وجد معه البيان فهو تطويل من غير فائدة ، وإن لم يوجد فقد فات المقصود ، وإن لم يكن المقصود منه الإفهام فهو عبث ، وهو قبيح ، فوجب صيانة كلام الله عنه " فهو مبني على الحسن والقبح الذاتي العقلي ، وسيأتي إبطاله .
[10] كيف وقد بينا أن مذهب والقاضي الشافعي أبي بكر : أن المشترك نوع من أنواع العموم ، والعام غير ممتنع في كلام الله تعالى ، وبتقدير عدم عمومه فلا يمتنع أن يكون في الخطاب به فائدة لنيل الثواب بالاستعداد لامتثاله بتقدير بيانه بظهور دليل يدل على تعيين البعض ، وإبطال جميع الأقسام سوى الواحد منها .