[ ص: 54 ] القسمة الرابعة
لا يخلو إما أن يكون بحيث لا يصح أن يشترك في مفهومه كثيرون أو يصح . الاسم
فالأول : اسم العلم كزيد وعمرو .
والثاني : إما أن لا يكون صفة أو هو صفة .
والأول هو اسم الجنس ، وهو إما أن يكون عينا كالإنسان والفرس ، أو غير عين كالعلم والجهل .
والصفة كالقائم والقاعد ، وهو الاسم المشتق ، والمشتق هو ما غير من أسماء المعاني عن شكله بزيادة أو نقصان في الحروف أو الحركات أو فيهما ، وجعل دالا على ذلك المعنى وعلى موضوع له غير معين كتسمية الجسم الذي قام به السواد أسود ، والبياض أبيض ونحوه ، ولا يتصور أن يكون المشتق إلا كذلك .
وهل يشترط قيام المشتق منها بما له الاشتقاق ؟ وهل يلزم الاشتقاق من الصفة المعنوية لما قامت به ؟ فذلك مما أوجبه أصحابنا ونفاه المعتزلة ، حيث إنهم جوزوا اشتقاق اسم المتكلم لله تعالى من كلام مخلوق له غير قائم بذاته ، ولم يوجبوا الاشتقاق منه للمحل الذي خلق فيه ، وقد عرفنا مأخذ الخلاف من الجانبين ، وما هو الصحيح منه في " أبكار الأفكار " فليلتمس .
[1] مسائل هذه القسمة مسألتان :
المسألة الأولى
في أن بقاء الصفة المشتق منها هل يشترط في إطلاق اسم المشتق حقيقة أم لا ؟ فأثبته قوم ونفاه آخرون ، وقد فصل بعضهم بين ما هو ممكن الحصول وما ليس ممكنا ، فاشترط ذلك في الممكن دون غيره .
[ ص: 55 ] احتج الشارطون بأنه لو كان إطلاق الضارب على شخص ما حقيقة بعد انقضائه [2] صفة الضرب منه لما صح نفيه ، ويصح أن يقال : إنه في الحال ليس بضارب .
ولقائل أن يقول : صحة سلب الضاربية عنه في الحال ، إنما يلزم منه سلبها عنه مطلقا ; إذ [3] لو لم يكن أعم من الضاربية في الحال ، وهو غير مسلم ، وعند ذلك فلا يلزم من صحة سلب الأخص سلب الأعم .
فإن قيل : " قول القائل هذا ضارب " لا يفيد سوى كونه ضاربا في الحال ، فإذا سلم صحة سلبه في الحال فهو المطلوب .
قلنا : هذا بعينه إعادة دعوى محل النزاع ، بل الضارب هو من حصل له الضرب وهو أعم من حصول الضرب له في الحال ، فالضارب أعم من الضارب في الحال .
فإن قيل : وكما أن حصول الضرب أعم من حصول الضرب في الحال ; لانقسامه إلى الماضي والحال فهو أعم من المستقبل أيضا ; لانقسامه في الحال والمستقبل ، فإن صدق اسم الضارب حقيقة باعتبار هذا المعنى الأعم ، فليكن اسم الضارب حقيقة قبل وجود الضرب منه ، كما كان حقيقة بعد زوال الضرب .
قلنا : الضارب حقيقة من حصل منه الضرب ، وهذا يصدق على من وجد منه الضرب في الماضي أو الحال ، بخلاف من سيوجد منه الضرب في المستقبل ، فإنه لا يصدق عليه أنه حصل منه الضرب ، وعند ذلك فلا يلزم من صدق الضارب حقيقة على من وجد منه الضرب ، صدقه حقيقة على من سيوجد منه الضرب ولم يوجد .
واحتج النافون بوجوه :
[ ص: 56 ] الأول : أن أهل اللغة قالوا : إذا كان اسم الفاعل بتقدير الماضي لا يعمل عمل الفعل ، فلا يقال ضارب زيدا أمس كما يقال بتقدير المستقبل ، بل يقال : ضارب زيد ، أطلقوا عليه اسم الفاعل باعتبار ما صدر عنه من الفعل الماضي .
الثاني : أنه لو كان وجود ما منه الاشتقاق شرطا في صحة الاشتقاق حقيقة لما كان إطلاق اسم المتكلم والمخبر حقيقة أصلا ; لأن ذلك لا يصح إلا بعد تحقق الكلام منه والخبر ، وهو إنما يتم بمجموع حروفه وأجزائه ، ولا وجود للحروف السابقة مع الحرف الأخير أصلا ، ولا خفاء بامتناع كونه متكلما حقيقة قبل وجود الكلام ، فلو لم يكن حقيقة عند آخر جزء من الكلام والخبر مع عدم وجود الكلام ، والخبر في تلك الحالة لما كان حقيقة أصلا ، وهو ممتنع وإلا لصح أن يقال : إنه ليس بمتكلم إذ هو لازم نفي الحقيقة ، ولما حنث من حلف أن فلانا لم يتكلم حقيقة وإنني لا أكلم فلانا حقيقة إذا كان قد تكلم أو كلمه .
الثالث : إن الضارب من حصل منه الضرب ، ومن وجد منه الضرب في الماضي يصدق عليه أنه قد حصل منه الضرب فكان ضاربا حقيقة .
ولقائل أن يقول : أما الوجه الأول فإنه لا يلزم من إطلاق اسم الفاعل عليه أن يكون حقيقة ، ولهذا فإنهم قالوا : اسم الفاعل إذا كان بتقدير المستقبل عمل عمل الفعل ، فقيل : ضارب زيدا غدا وليس ذلك حقيقة بالاتفاق .
وأما الوجه الثاني فغير لازم أيضا ; إذ للخصم أن يقول : شرط كون المشتق حقيقة إنما هو وجود ما منه الاشتقاق إن أمكن ، وإلا فوجود آخر جزء منه ، وذلك متحقق في الكلام والخبر بخلاف ما نحن فيه .
وأما الثالث : فلا نسلم أن اسم الضارب حقيقة على من وجد منه الضرب مطلقا ، بل من الضرب حاصل منه حالة تسميته ضاربا ، ثم يلزم تسمية أجلاء الصحابة كفرة ; لما وجد منهم من الكفر السابق ، والقائم قاعدا ، والقاعد قائما ; لما وجد منه من القعود والقيام السابق ، وهو غير جائز بإجماع المسلمين وأهل اللسان .
هذا ما عندي في هذه المسألة ، وعليك بالنظر والاعتبار .