الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          الإحكام في أصول الأحكام

          الآمدي - علي بن محمد الآمدي

          المسألة الثالثة

          مذهب الأشاعرة وأهل الحق : أنه لا حكم لأفعال العقلاء قبل ورود الشرع .

          وأما المعتزلة فإنهم قسموا الأفعال الخارجة عن الأفعال الاضطرارية إلى ما حسنه العقل ، وإلى ما قبحه ، وإلى ما لم يقض العقل فيه بحسن ولا قبح . فما حسنه العقل : إن استوى فعله وتركه في النفع والضرر سموه مباحا ، وإن ترجح فعله على تركه فإن لحق الذم بتركه سموه واجبا ، وسواء كان مقصودا لنفسه كالإيمان أو لغيره كالنظر المفضي إلى معرفة الله تعالى ، وإن لم يلحق الذم بتركه سموه مندوبا . وما قبحه العقل : فإن التحق الذم بفعله سموه [ ص: 92 ] حراما وإلا فمكروه ، وما لم يقض العقل فيه بحسن ولا قبح فقد اختلفوا فيه : فمنهم من حظره ، ومنهم من أباحه ، ومنهم من وقف عن الأمرين .

          احتجت الأشاعرة بالمنقول والمعقول :

          أما المنقول فقول الله تعالى : ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) .

          ووجه الدلالة منه أنه أمن من العذاب قبل بعثة الرسل ، وذلك يستلزم انتفاء الوجوب والحرمة قبل البعثة ، وإلا لما أمن من العذاب بتقدير ترك الواجب وفعل المحرم ; إذ هو لازم لهما .

          وأيضا قوله تعالى : ( لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ) ومفهومه يدل على الاحتجاج [1] قبل البعثة ، ويلزم من ذلك نفي الموجب والمحرم .

          وأما من جهة المعقول : فلأن ثبوت الحكم إما بالشرع أو بالعقل بالإجماع ، ولا شرع قبل ورود الشرع ، والعقل غير موجب ولا محرم لما سبق في المسألة المتقدمة ، فلا حكم .

          [2] فإن قيل : أما الآية الأولى فلا حجة فيها ، فإنه ليس العذاب من لوازم ترك الواجب وفعل المحرم ، ولهذا يجوز انفكاكه عنهما بناء على عفو أو شفاعة ، فنفيه قبل ورود الشرع لا يلزم منه نفيهما .

          سلمنا أنه لازم لهما لكن بعد ورود الشرع لا قبله ، وعلى هذا فلا يلزم نفيهما من نفيه قبل ورود الشرع .

          سلمنا أنه لازم لهما ، لكنه لازم للواجب والمحرم شرعا أو عقلا ، الأول مسلم والثاني ممنوع ، وعلى هذا فاللازم من نفيه قبل الشرع نفي الواجب والمحرم شرعا لا عقلا .

          سلمنا ذلك ، ولكن ليس في الآية ما يدل على نفي الإباحة والوقف لعدم ملازمة العذاب لشيء من ذلك إجماعا .

          [ ص: 93 ] وأما الآية الأخرى ، وإن سلمنا كون المفهوم حجة فالاعتراض على الآية الأولى بعينه وارد هاهنا ، وأما ما ذكرتموه من المعقول فقد سبق ما فيه . كيف وأن ما ذكرتموه من الدلالة على نفي الحكم حكم بنفي الحكم فكان متناقضا .

          والجواب عن السؤال الأول : أن وقوع العذاب بالفعل وإن لم يكن لازما من ترك الواجب وفعل المحرم فلازمه عدم الأمن من ذلك لعدم تحقق الواجب والمحرم دونه . وهذا اللازم منتف قبل ورود الشرع على ما دلت عليه الآية فلا ملزوم ، وبه يندفع ما ذكروه من السؤال الثاني والثالث .

          والتمسك بالآية إنما هو في نفي الوجوب والحرمة قبل لا غير ، ونفي ما سوى ذلك فإنما يستفاد من دليل آخر على ما سنبينه ، وبه اندفع السؤال الرابع .

          [3] وما ذكروه على الدليل العقلي فقد سبق أيضا جوابه ، ونفي الحكم وإن كان حكما غير أن المنفي ليس هو الحكم مطلقا ليلزم التناقض ، بل نفي ما أثبتوه من الأحكام المذكورة فلا تناقض .

          وأما القائلون بالإباحة إن فسروها بنفي الحرج عن الفعل والترك ، فلا نزاع في هذا المعنى وإنما النزاع في صحة إطلاق لفظ الإباحة بإزائه ، ولهذا فإنه يمتنع إطلاق لفظ الإباحة على أفعال الله تعالى مع تحقق ذلك المعنى فيها ، وإن فسروها بتخيير الفاعل بين الفعل والترك فإما أن يكون ذلك التخيير للفاعل من نفسه وإما من غيره ، فإن كان الأول فيلزم منه تسمية أفعال الله مباحة لتحقق ذلك في حقه ، وهو ممتنع بالإجماع . . وإن كان الثاني فالمخير إما الشرع وإما العقل بالإجماع ، ولا شرع قبل ورود الشرع ، وتخيير العقل عندهم إنما يكون فيما استوى فعله وتركه من الأفعال الحسنة عقلا ، أو فيما لم يقض العقل فيه بحسن ولا قبح ، وهو فرع الحسن والقبح العقلي ، وقد أبطلناه [4] ، وإن فسروه بأمر آخر فلا بد من تصويره .

          [ ص: 94 ] فإن قيل : المباح هو المأذون في فعله ، وقد ورد دليل الإذن من الله تعالى قبل ورود الشرع ، وإن لم ترد صورة الإذن ، وبيانه من وجهين :

          الأول : هو أن الله تعالى خلق الطعوم في المأكولات والذوق فينا ، وأقدرنا عليها ، وعرفنا بالأدلة العقلية أنها نافعة لنا غير مضرة ، ولا ضرر عليه في الانتفاع بها ، وهو دليل الإذن منه لنا في ذلك ، وصار هذا كما لو قدم إنسان طعاما بين يدي إنسان على هذه الصفات فإن العقلاء يقضون بكونه قد أذن له فيه .

          الثاني : أن خلقه للطعوم في الأجسام مع إمكان ألا يخلقها لا بد له من فائدة نفيا للعبث عنه ، وليست تلك الفائدة عائدة إلى الله تعالى لتعاليه عنها ، فلا بد من عودها إلى العبد ، وليست هي الإضرار ولا ما هو خارج عن الإضرار والانتفاع ; إذ هو خلاف الإجماع فكانت فائدتها الانتفاع بها وهو دليل الإذن في إدراكها ، وسواء كان الانتفاع بها بجهة الالتذاذ بها وتقويم البنية ، أو بجهة تجنبها لنيل الثواب ، أو الاستدلال بها على معرفة الله تعالى لتوقف ذلك كله على إدراكها واحتمال وجود مفسدة فيه مع عدم الاطلاع عليها لا يكون مانعا من الإذن والحكم بالإباحة ، بدليل الاستضاءة بسراج الغير والاستظلال بحائطه .

          وقلنا : أما الوجه الأول فحاصله يرجع إلى قياس الغائب على الشاهد ، وقد أبطلناه .

          وأما الثاني : فمبني على وجوب رعاية الحكمة في أفعاله تعالى ، وهو ممنوع على ما عرف من أصلنا [5] ، ثم إذا كان مأذونا فيه من جهة الشارع فإباحته شرعية لا عقلية .

          [6] وأما القائلون بالوقف ، إن عنوا به توقف الحكم بهذه الأشياء على ورود السمع فحق ، وإن عنوا به الإحجام عن الحكم بالوجوب أو الحظر أو الإباحة لتعارض أدلتها ففاسد لما سبق .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية