[ ص: 9 ] القسم الأول
في المبادئ الكلامية
فنقول : اعلم أنه لما كانت أصول الفقه هي أدلة الفقه ، وكان الكلام فيها مما يحوج إلى معرفة الدليل ، وانقسامه إلى ما يفيد العلم أو الظن ، وكان ذلك مما لا يتم دون النظر ، دعت الحاجة إلى تعريف معنى الدليل ، والنظر والعلم والظن من جهة التحديد والتصوير لا غير .
أما الدليل ، فقد يطلق في اللغة بمعنى الدال ، وهو الناصب للدليل .
وقيل : هو الذاكر للدليل ، وقد يطلق على ما فيه دلالة وإرشاد ، وهذا هو المسمى دليلا في عرف الفقهاء ، وسواء كان موصلا إلى علم أو ظن .
والأصوليون يفرقون بين ما أوصل إلى العلم ، وما أوصل إلى الظن ، فيخصون اسم الدليل بما أوصل إلى العلم ، واسم الأمارة بما أوصل إلى الظن .
[1] وعلى هذا فحده على أصول الفقهاء : أنه الذي يمكن أن يتوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري .
فالقيد الأول : احتراز عما لم يتوصل به إلى المطلوب لعدم النظر فيه ، فإنه لا يخرج بذلك عن كونه دليلا لما كان التوصل به ممكنا .
والقيد الثاني : احتراز عما إذا كان الناظر في الدليل بنظر فاسد .
والثالث : احتراز عن الحد الموصل إلى العلم التصوري ، وهو عام للقاطع والظني .
وأما حده على العرف الأصولي ، فهو ما يمكن التوصل به إلى العلم بمطلوب خبري ، وهو منقسم : إلى عقلي محض ، وسمعي محض ، ومركب من الأمرين .
[ ص: 10 ] فالأول كقولنا في الدلالة على حدوث العالم : العالم مؤلف ، وكل مؤلف حادث فيلزم عنه العالم حادث .
[2] والثاني : كالنصوص من الكتاب والسنة والإجماع والقياس ، كما يأتي تحقيقه .
والثالث : كقولنا في الدلالة على تحريم النبيذ : النبيذ مسكر ، وكل مسكر حرام - لقوله عليه السلام : ( ) - فيلزم عنه النبيذ حرام . كل مسكر حرام
[3] وأما النظر ، فإنه قد يطلق في اللغة بمعنى الانتظار ، وبمعنى الرؤية بالعين ، والرأفة ، والرحمة ، والمقابلة ، والتفكر ، والاعتبار . وهذا الاعتبار الأخير هو المسمى بالنظر في عرف المتكلمين .
وقد قال القاضي أبو بكر في حده : " هو الفكر الذي يطلب به من قام به علما أو ظنا .
وقد احترز بقوله : " يطلب به " عن الحياة وسائر الصفات المشروطة بالحياة ، فإنها لا يطلب بها ذلك وإن كان من قامت به يطلبه ، وقصد بقوله : ( علما أو ظنا ) التعميم للعلم والظن ; ليكون الحد جامعا ، وهو حسن ، غير أنه يمكن أن يعبر عنه بعبارة أخرى لا يتجه عليها من الإشكالات ما قد يتجه على عبارة القاضي ، على ما بيناه في ( أبكار الأفكار ) وهو أن يقال : النظر عبارة عن التصرف بالعقل في الأمور السابقة بالعلم والظن . . المناسبة للمطلوب بتأليف خاص قصدا لتحصيل ما ليس حاصلا في العقل ، وهو عام للنظر المتضمن للتصور والتصديق ، والقاطع والظني .
وهو منقسم إلى ما وقف الناظر فيه على وجه دلالة الدليل على المطلوب [ ص: 11 ] فيكون صحيحا ، وإلى ما ليس كذلك فيكون فاسدا . وشرط وجوده مطلقا : العقل ، وانتفاء أضداده من النوم والغفلة والموت ، وحصول العلم بالمطلوب ، وغير ذلك .
وأما العلم ، فقد اختلف المتكلمون في تحديده فمنهم من زعم أنه لا سبيل إلى تحديده ، لكن اختلف هؤلاء فمنهم من قال : بيان طريق تعريفه إنما هو بالقسمة والمثال كإمام الحرمين ، وهو غير سديد ، فإن القسمة إن لم تكن مفيدة لتمييزه عما سواه فليست معرفة له ، وإن كانت مميزة له عما سواه ، فلا معنى للتحديد بالرسم سوى هذا . والغزالي
ومنهم من زعم أن العلم بالعلم ضروري غير نظري ; لأن كل ما سوى العلم لا يعلم إلا بالعلم ، فلو علم العلم بالغير كان دورا ؛ ولأن كل أحد يعلم وجود نفسه ضرورة ، والعلم أحد تصورات هذا التصديق فكان ضروريا ، وهو أيضا غير سديد . أما الوجه الأول : فلأن جهة توقف غير العلم على العلم من جهة كون العلم إدراكا له ، وتوقف العلم على الغير لا من جهة كون ذلك الغير إدراكا للعلم ، بل من جهة كونه صفة مميزة له عما سواه ، ومع اختلاف جهة التوقف فلا دور . وأما الوجه الثاني : فهو مبني على أن تصورات القضية الضرورية لا بد وأن تكون ضرورية ، وليس كذلك لأن القضية الضرورية هي التي يصدق العقل بها بعد تصور مفرداتها من غير توقف بعد تصور المفردات على نظر واستدلال ، وسواء كانت التصورات ضرورية أو نظرية .
ومنهم من سلك في تعريفه التحديد ، وقد ذكر في ذلك حدود كثيرة أبطلناها في ( أبكار الأفكار ) والمختار في ذلك أن يقال : ( العلم عبارة عن صفة يحصل بها لنفس المتصف بها التمييز بين حقائق المعاني الكلية حصولا لا يتطرق إليه احتمال نقيضه ) .
فقولنا : ( صفة ) كالجنس له ولغيره من الصفات ، وقولنا : ( يحصل بها التميز ) احتراز عن الحياة ، وسائر الصفات المشروطة بالحياة . وقولنا : ( بين حقائق [ ص: 12 ] الكليات ) احتراز عن الإدراكات الجزئية ، فإنها إنما تميز بين المحسوسات الجزئية دون الأمور الكلية ، وإن سلكنا مذهب الشيخ أبي الحسن في أن الإدراكات نوع من العلم ، لم نحتج إلى التقييد بالكليات .
وهو منقسم إلى قديم [4] لا أول لوجوده ، وإلى حادث بعد العدم ، والحادث ينقسم إلى : ضروري ، وهو العلم الحادث الذي لا قدرة للمكلف على تحصيله بنظر واستدلال ، فقولنا : ( العلم الحادث ) احتراز عن علم الله تعالى . [5] ، وقولنا : ( لا قدرة للمكلف على تحصيله بنظر واستدلال ) احتراز عن العلم النظري ، والنظري هو العلم الذي تضمنه النظر الصحيح .
وأما الظن فعبارة عن ترجح أحد الاحتمالين في النفس على الآخرة من غير القطع .