الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          الإحكام في أصول الأحكام

          الآمدي - علي بن محمد الآمدي

          وربما احتج بعض الأصحاب بقوله تعالى : ( يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون ) وهو تكليف بالسجود مع عدم الاستطاعة ، وإنما يصح الاحتجاج به أن لو أمكن أن يكون الدعاء في الآخرة بمعنى التكليف ، وليس كذلك للإجماع على أن الدار الآخرة إنما هي دار مجازاة لا دار تكليف .

          وأما من جهة المعقول ، فقد احتج فيه بعضهم بحجج واهية :

          الأولى منها : هو أن الفعل المكلف به إن كان مع استواء داعي العبد إلى الفعل والترك كان الفعل ممتنعا لامتناع حصول الرجحان معه ، وإن كان مع الترجيح لأحد الطرفين كان الراجح واجبا والمرجوح ممتنعا ، والتكليف بهما يكون محالا .

          الثانية : أن الفعل الصادر من العبد إما أن يكون العبد متمكنا من فعله وتركه أو لا يكون ، فإن لم يكن متمكنا منه فالتكليف له بالفعل يكون تكليفا بما لا يطاق ، وإن كان متمكنا منه فإما أن لا يتوقف ترجح فعله على تركه على مرجح [ ص: 139 ] أو يتوقف ، الأول محال وإلا كان كل موجود حادثا هكذا ، ويلزم منه سد باب إثبات واجب الوجود ، وإن توقف ، فذلك المرجح إن كان من فعل العبد عاد التقسيم ، وهو تسلسل ممتنع ، وإن كان من فعل غيره فإما أن يجب وقوع الفعل أو لا يجب ، وإذا لم يجب كان ممتنعا أو جائزا ، والأول محال وإلا كان المرجح مانعا ، وإن كان الثاني عاد التقسيم بعينه وهو ممتنع ، فلم يبق سوى الوجوب ، والعبد إذ ذاك يكون مجبورا لا مخيرا ، وهو عين التكليف بما لا يطاق .

          الثالثة : أن قدرة العبد غير مؤثرة في فعله [1] وإلا كانت مؤثرة فيه حال وجوده ، وفيه إيجاد الموجود أو قبل وجوده ، ويلزم من ذلك أن يكون تأثير القدرة في المقدور مغايرا له لتحقق التأثير في الزمن الأول دونه . والكلام في ذلك التأثير وتأثير مؤثره فيه كالأول ، وهو تسلسل ممتنع والقدرة غير مؤثرة في الفعل وهو المطلوب .

          الرابعة : أن العبد مكلف بالفعل قبل وجود الفعل ، والقدرة غير موجودة قبل الفعل [2] ; لأنها لو وجدت لكان لها متعلق ومتعلقها لا يكون عدما لأنه نفي محض فلا يكون أثرا لها ، فكان وجودا ولزم من ذلك أن تكون موجودة مع الفعل لا قبله .

          الخامسة : أن العبد لقوله تعالى : ( قل انظروا ) والنظر متوقف على القضايا الضرورية قطعا للتسلسل ، وهي متوقفة على تصور مفرداتها ، وهي غير مقدورة التحصيل ; لأنه إن كان عالما بها فتحصيل الحاصل محال ، وإن لم يكن عالما بها فطلبها محال ، فالنظر يكون ممتنع التحصيل .

          وهذه الحجج ضعيفة جدا .

          أما الحجة الأولى : فلقائل أن يقول : ما المانع أن يكون وجود الفعل مع رجحان الداعي إلى الفعل ، قوله : لأنه صار الفعل واجبا . قلنا : صار واجبا بالداعي إليه والاختيار له أو لذاته ، الأول مسلم والثاني ممنوع ، وعلى هذا خرج العبد عن كونه مكلفا بما لا يطاق ، ثم يلزم عليه أن تكون أفعال الرب غير مقدورة بعين ما ذكروه وهو ممتنع ، فما هو الجواب عن أفعال الله يكون مشتركا .

          [ ص: 140 ] وأما الثانية فهي بعينها أيضا لازمة على أفعال الله ; إذ أمكن أن يقال : فعل الله ، إما أن لا يكون متمكنا منه أو يكون ، وهو إما أن يفتقر إلى مرجح أو لا ، وإن افتقر إلى مرجح : فإن كان من فعله عاد التقسيم ، وإن لم يكن من فعله فإما أن يجب وقوع الفعل معه أو لا يجب ، وهلم جرا إلى آخره ، والجواب يكون مشتركا .

          وكذلك الثالثة أيضا لازمة على أفعال الله مع أنها مقدورة له إجماعا .

          [3] وأما الرابعة : فيلزم منها أن تكون قدرة الرب تعالى حادثة موجودة مع فعله لا قبله ، وهو مع إحالته فقائل هذه الطريقة غير قائل به ، وبيان ذلك أنه أمكن أن يقال : لو وجدت قدرة الرب قبل وجود فعله لكان لها متعلق وليس متعلقها العدم ، فلم يبق غير الوجود ، ويلزم أن لا يكون قبل الفعل ، بعين ما ذكروه .

          وأما الخامسة : فأشد ضعفا مما قبلها ; إذ هي مبنية على امتناع اكتساب التصورات ، وقد أبطلناه في كتاب " دقائق الحقائق " إبطالا لا ريبة فيه بما لا يحتمله هذا الكتاب ، فعلى الناظر بمراجعته ، وبتقدير أن لا تكون التصورات مكتسبة ، فالعلم بها يكون حاصلا بالضرورة . والتكليف بالنظر المستند إلى ما ينقطع التسلسل عنده من المعلومات الضرورية لا يكون تكليفا بما لا يطاق ، وهو معلوم بالضرورة ، والمعتمد في ذلك مسلكان :

          المسلك الأول : أن العبد غير خالق لفعله فكان مكلفا بفعل غيره [4] وهو تكليف بما لا يطاق ، وبيان أنه غير خالق لفعله : أنه لو كان خالقا لفعله فليس خالقا له بالذات والطبع إجماعا بل بالاختيار ، والخالق بالاختيار لا بد وأن يكون مخصصا لمخلوقه بالإرادة ، ويلزم من كونه مريدا له أن يكون عالما به ضرورة ، والعبد غير عالم [ ص: 141 ] بجميع أجزاء حركاته في جميع حالاته ، ولا سيما في حالة إسراعه فلا يكون خالقا لها .

          [5] المسلك الثاني : إن إجماع السلف منعقد قبل وجود المخالفين من الثنوية على أن الله تعالى مكلف بالإيمان لمن علم أنه لا يؤمن كمن مات على كفره ، وهو تكليف بما يستحيل وقوعه ; لأنه لو وقع لزم أن يكون علم الباري تعالى جهلا وهو محال .

          فإن قيل : أما المسلك الأول ، وإن سلمنا أن العبد لا بد وأن يكون عالما بما يخلقه من أفعاله ، لكن من جهة الجملة أو من جهة التفصيل ، الأول لا سبيل إلى نفيه والثاني ممنوع . وإن سلمنا دلالة ما ذكرتموه على أن العبد غير خالق لفعله لكنه معارض بما يدل على خلقه له ، ودليله : المعقول والمنقول .

          أما المعقول : فهو أن قدرة العبد ثابتة بالإجماع منا ومنكم على فعله ، فلو لم تكن هي المؤثرة فيه لانتفى الفرق بين المقدور وغيره ، وكان المؤثر غير العبد ، ويلزم منه وجود مقدور بين قادرين [6] ولما وقع الاختلاف بين القوي والضعيف ، ولجاز أن تكون متعلقه [7] بالجواهر والألوان كما في العلم ، ولكان العبد مضطرا بما خلق فيه من الفعل لا مختارا ، [ ص: 142 ] ولجاز أن يصدر عن العبد أفعال محكمة بديعة وهو لا يشعر بها ، ولما انقسم فعله إلى طاعة ومعصية ; لأنه ليس من فعله ، ولكان الرب تعالى أضر على العبد من إبليس ; حيث إنه خلق فيه الكفر وعاقبه عليه وإبليس داع لا غير ، ولما حسن شكر العبد ولا ذمه على أفعاله ولا أمره ولا نهيه ولا عقابه ولا ثوابه ، ولكان الرب تعالى آمرا للعبد بفعل نفسه وهو قبيح معدود عند العقلاء من الجهل والحمق ، ولكان الكفر والإيمان من قضاء الله تعالى وقدره ، وهو إما أن يكون حقا أو باطلا : فإن كان حقا فالكفر حق ، وإن كان باطلا فالإيمان باطل . ولكان الرب تعالى إما راضيا به راض أو غير راض ، والأول يلزم منه الرضا بالكفر والثاني يلزم منه عدم الرضا بالإيمان ، والكل محال مخالف للإجماع .

          وأما النقل فقوله تعالى : ( وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ) ، وقوله تعالى : ( أم حسب الذين اجترحوا السيئات ) ، وقول النبي عليه السلام : " اعملوا وقاربوا وسددوا " ، وقوله عليه السلام : " نية المؤمن خير من عمله " إلى غير ذلك من النصوص الدالة على نسبة العمل إلى العبد .

          والعقلاء متوافقون على إطلاق إضافة الفعل إلى العبد بقولهم : فلان فعل كذا وكذا ، والأصل في الإطلاق الحقيقة .

          وأما المسلك الثاني : فهو أن تعلق علم الباري تعالى بالفعل أو بعدمه إما أن يكون موجبا لوجود ما علم وجوده وامتناع وجود ما علم عدمه ، أو لا يكون كذلك .

          فإن كان الأول فيلزمه محالات : وهو أن يكون العلم هو القدرة ، أو أن يستغنى به عن القدرة ، ولا يكون الرب قادرا على إيجاد شيء أو عدمه ، وأن لا يكون للرب اختيار ، ولا للعبد في وجود فعل من الأفعال لكونه واجبا بالعلم أو ممتنعا ، وإن لم يكن موجبا للوجود ولا للعدم فقد بطل الاستدلال ، وإن سلم ذلك لكنه معارض بما سبق من الأدلة العقلية والنقلية .

          والجواب عما ذكروه أولا عن المسلك الأول بأن الفعل المخلوق للعبد بتقدير خلقه له مخلوق بجميع أجزائه ، وكل جزء منه مخلوق له بانفراده ، فيجب أن [ ص: 143 ] يكون عالما به لما سبق ، وهذا هو العلم بالتفصيل ، وهو غير عالم لما حققناه [8] .

          وعما ذكروه من الإلزام الأول بمنع عدم الفرق بين المقدور وغيره .

          وعن الثاني : أنه إنما يمتنع وجود مقدور بين قادرين خالقين أو مكتسبين ، أما بين خالق ومكتسب فهو غير مسلم .

          [9] وعن الثالث : بأن الاختلاف بين القوي والضعيف إنما هو واقع في كثرة ما يخلقه الله تعالى من القدرة على المقدورات في أحد الشخصين دون الآخر ، لا في التأثير .

          وعن الرابع : أنه إنما يلزم أن لو كان تعلق العلم بالجواهر والأعراض من جهة كونه غير مؤثر فيها [10] ، وهو غير مسلم .

          وعن الخامس : أنه إنما يلزم أن يكون العبد مضطرا أن لو لم يكن فعله مكتسبا له ومقدورا ، ولا يلزم من عدم التأثير عدم الاكتساب .

          [11] وعن السادس : أنه لا مانع من تلازم القدرة على الشيء والعلم به .

          [12] وعن السابع : أنه لا معنى لانقسام فعل العبد إلى الطاعة والمعصية غير كونه مأمورا بهذا ومنهيا عن هذا لكسبه ، وهو كذلك .

          وعن الثامن : أنه لازم على أصلهم أيضا فإن التمكن [13] من الكفر بخلق القدرة عليه أضر من الدعاء إليه ، وقد فعل الله تعالى ذلك بالعبد ، فما هو جواب لهم هو جوابنا .

          وعما ذكروه من الأمر والنهي والشكر والذم والثواب والعقاب ، والأمر للعبد بما هو من فعل الله تعالى ، بالمنع من تقبيح ذلك بتقدير أن يكون قادرا غير مؤثر ، كيف وأنه مبني على التحسين والتقبيح العقلي وقد أبطلناه .

          [14] وعن الإلزام بالقضاء والقدر ، أن القضاء قد يطلق بمعنى الإعلام والأمر والاختراع ، وانقضاء الأجل ، وإلزام الحكم ، وتوفية الحقوق ، والإرادة ، لغة .

          [ ص: 144 ] وعلى هذا فالإيمان من قضائه بجميع هذه الاعتبارات وهو حق ، وأما الكفر فليس من قضائه بمعنى كونه مأمورا بل بمعنى خلقه وإرادة وقوعه ، وهو حق من هذا الوجه أيضا .

          [15] وعن الإلزام بالرضا أنه راض بالإيمان ، وغير راض بالكفر .

          وعن المنقول بأن ما ذكروه غايته إضافة الفعل إلى العبد حقيقة ، ونحن نقول به فإن الفاعل عندنا على الحقيقة هو من وقع الفعل مقدورا له [16] ، وهو أعم من الموجد .

          والجواب عما ذكروه في المسلك الثاني بأن تعلق العلم بوجود الفعل بملازمة الوجود المقدور ، فإنه إنما يعلم وجوده مقدورا لا غير مقدور ، وكذلك في العدم .

          وعلى هذا فلا يلزم منه عدم القدرة في حق الله تعالى ولا سلب اختياره في فعله ، وكذلك العبيد فإنه إنما علم وقوع فعل العبد مقدورا للعبد ، والمعارضات فقد سبق الجواب عنها .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية