الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          الإحكام في أصول الأحكام

          الآمدي - علي بن محمد الآمدي

          [ ص: 191 ] المسألة الخامسة

          إذا تعارض فعل النبي وقوله ، فإما أن يكون فعله لم يدل الدليل على تكرره في حقه ، ولا على تأسي الأمة به فيه أو دل .

          فإن كان الأول فقوله إما أن يكون خاصا به أو بنا أو هو عام له ولنا .

          فإن كان خاصا به ، فإما أن يعلم تقدم أحدهما أو يجهل التاريخ فإن علم تقدم أحدهما وتأخر الآخر ، فإما أن يكون المتقدم هو الفعل أو القول .

          فإن كان المتقدم هو الفعل مثل أن يفعل فعلا في وقت ، ويقول بعده إما على الفور أو التراخي : لا يجوز لي مثل هذا الفعل في مثل هذا الوقت ، فلا تعارض بينهما ؛ لأن القول لم يرفع حكم ما تقدم من الفعل في الماضي ولا في المستقبل ; لأن الفعل غير مقتض للتكرار على ما وقع به الغرض ، وقد أمكن الجمع بين حكم القول والفعل .

          وإن كان المتقدم هو القول مثل أن يقول : الفعل الفلاني واجب علي في الوقت الفلاني ثم يتلبس بضده في ذلك الوقت ، فمن جوز نسخ الحكم قبل التمكن من الامتثال ، قال : إن الفعل ناسخ لحكم القول .

          ومن لم يجوز ذلك منع كون الفعل رافعا لحكم القول ، وقال : لا يتصور وجود مثل ذلك الفعل مع العمد إن لم نجوز على النبي عليه السلام ، وإلا فهو معصية .

          وأما إن كان قوله خاصا بنا فلا تعارض أيضا لعدم اجتماعهما في محل واحد من جهة واحدة ، وأما إن كان قوله عاما لنا وله فإن كان الفعل متقدما فلا معارضة أيضا بين قوله وفعله .

          أما بالنسبة إليه عليه السلام فلما تقدم فيما إذا كان قوله خاصا به .

          وأما [1] إلينا فلأن فعله غير متعلق بنا على ما وقع به الغرض ، وإن كان القول هو المتقدم ، فالحكم في التعارض بين قوله وفعله بالنسبة إليه كما تقدم أيضا فيما إذا كان قوله خاصا به ، ولا معارضة بالنسبة إلينا لعدم توارد قوله وفعله علينا على ما وقع به الغرض ، هذا كله فيما إذا لم يدل الدليل على تكرر ذلك الفعل في حقه ولا تأسي الأمة به .

          وأما إن دل الدليل على تكرره في حقه وعلى تأسي الأمة به ، أو على تكرره في حقه دون تأسي الأمة به ، أو على تأسي الأمة به دون تكرره في حقه ، فالحكم مختلف في هذه الصور .

          [ ص: 192 ] فإن دل الدليل على تكرره في حقه ، وعلى تأسي الأمة به فلا يخلو قوله إما أن يكون خاصا به أو بنا ، أو هو عام له ولنا ، فإن كان قوله خاصا به فإما أن يعلم تقدم الفعل أو القول أو يجهل التاريخ ، فإن علم تقدم الفعل فالقول المتأخر يكون ناسخا لحكم الفعل في حقه في المستقبل دون أمته لعدم تناول القول لهم .

          وإن كان القول هو المتقدم ، ففعله يكون ناسخا لحكم القول في حقه أن كان بعد التمكن من الامتثال أو قبله ، على رأي من يجوزه وموجبا للفعل على أمته .

          وأما إن جهل التاريخ فلا معارضة بين فعله وقوله بالنسبة إلى الأمة لعدم تناول قوله لهم .

          وأما بالنسبة إليه فقد اختلف فيه ، فمنهم من قال بوجوب العمل ، ومنهم من قال بالعكس ، ومنهم من أوجب المعارضة والوقف إلى حين قيام دليل التاريخ ، والمختار إنما هو العمل لوجوه أربعة :

          الأول : أن القول يدل بنفسه من غير واسطة ، والفعل إنما يدل على الجواز بواسطة أن النبي عليه السلام لا يفعل المحرم ، وذلك مما يتوقف على الدلائل الغامضة البعيدة .

          الثاني : أن القول مما يمكن التعبير به عما ليس بمحسوس كالمعقولات الصرفة ، وعن المحسوس ، والفعل لا ينبئ عن غير محسوس ، فكانت دلالة القول أقوى وأتم .

          الثالث : أن القول قابل للتأكيد بقول آخر ولا كذلك الفعل ، فكان القول لذلك أولى .

          الرابع : أن العمل هاهنا مما يفضي إلى نسخ مقتضى الفعل في حق النبي عليه السلام دون الأمة ، والعمل بالفعل يفضي إلى إبطال مقتضى القول بالكلية ، فكان الجمع بينهما ولو من وجه أولى .

          فإن قيل : بل الفعل آكد ; في الدلالة فإنه يبين به القول ، والمبين للشيء آكد في الدلالة من ذلك الشيء .

          وبيانه أن جبريل عليه السلام بين للنبي عليه السلام كيفية الصلاة المأمور بها وبين مواقيتها حيث صلى به في اليومين ، وقال : " يا محمد الوقت ما بين هذين " والنبي عليه السلام بين الصلاة للأمة بفعله ، حيث قال : " صلوا كما رأيتموني أصلي " وبين المراد من قوله تعالى : ( ولله على الناس حج البيت ) بفعله حيث قال : " خذوا عني مناسككم " ، وقال للذي سأله عن مواقيت الصلاة : " صل معنا " ، وبين الشهر بأصابعه حيث قال : " إنما الشهر هكذا وهكذا " .

          [ ص: 193 ] وأيضا فإن كل من رام تعليم غيره إذا أراد المبالغة في إيصال معنى ما يقوله إلى فهمه استعان في ذلك بالإشارة بيده والتخطيط وتشكيل الأشكال ، ولولا أن الفعل أدل لما كان كذلك .

          قلنا : غاية ما ذكرتموه وجود البيان بالفعل ، وكما وجد البيان بالفعل فقد وجد أغلب من البيان بالفعل .

          فإن أكثر الأحكام مستندها إنما هو الأقوال دون الأفعال ، وغايته أنهما يتساويان في ذلك ويبقى ما ذكرناه من الترجيحات الأولى بحالها ، هذا كله إذا كان قوله خاصا به ، وأما إن كان قوله خاصا بنا دونه : فإما أن يعلم تقدم الفعل ، أو القول أو يجهل التاريخ .

          فإن علم تقدم الفعل ; فالقول المتأخر يكون ناسخا للحكم في حقنا دونه ، وإن كان القول هو المتقدم فالحكم في كون الفعل ناسخا لحكم القول في حقنا دون النبي فكما ذكرناه فيما إذا كان القول خاصا به .

          وأما إن جهل التاريخ فالخلاف كالخلاف فيما إذا كان القول خاصا به ، والمختار إنما هو العمل لما علم .

          وأما إن كان القول عاما له ولنا فأيهما تأخر كان ناسخا لحكم المتقدم في حقه وحقنا على ما ذكرناه من التفصيل في التعقيب والتراخي .

          وإن جهل التاريخ فالخلاف كالخلاف ، والمختار كالمختار .

          وهذا كله فيما إذا دل الدليل على تكرر الفعل في حقه وعلى تأسي الأمة به .

          وأما إن دل الدليل على تكرره في حقه دون تأسي الأمة به ، فالقول إن كان خاصا بالأمة ، فلا تعارض لعدم المزاحمة بينهما .

          وإن كان خاصا بالنبي أو هو عام له وللأمة ، فالتعارض بين القول والفعل إنما يتحقق بالنسبة إليه دون أمته ; لعدم قيام الدليل على تأسي الأمة به في فعله ولا يخفى الحكم سواء تقدم الفعل أو تأخر أو جهل التاريخ .

          [ ص: 194 ] وأما إن دل الدليل على تأسي الأمة به في فعله دون تكرره في حقه ، فالقول إن كان خاصا به ، فإن كان متأخرا عن الفعل فلا معارضة لا في حقه ولا في حق أمته ، وإن كان متقدما فالفعل المتأخر عنه يكون ناسخا لحكم القول في حقه على ما ذكرناه من التفصيل دون أمته .

          وإن جهل التاريخ فالخلاف على ما تقدم .

          وإن كان القول خاصا بأمته فلا معارضة بين القول والفعل بالنسبة إلى النبي عليه السلام ، لعدم المزاحمة .

          وأما إن تحققت المعارضة بين القول والفعل بالنسبة إلى الأمة فأيهما كان متأخرا فهو محمود ، وإن جهل التاريخ فالخلاف على ما سبق وكذلك المختار .

          وإن كان القول عاما له ولأمته ، فإن تقدم الفعل ، فالقول المتأخر لا معارضة بينه وبين الفعل في حق النبي عليه السلام ، وإنما هو ناسخ لحكم الفعل في حق الأمة .

          وإن تقدم القول فالفعل ناسخ لحكم القول في حق النبي والأمة ، وإن جهل التاريخ ، فالخلاف كالخلاف والمختار كالمختار ، والله أعلم .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية