وإن كان منكرا فخلافه يكون معروفا وهو المطلوب .
فإن قيل : لا نسلم أن الألف واللام الداخلة على اسم الجنس للاستغراق على ما سيأتي ، وعلى هذا فلا تكون الآية عامة في الأمر بكل معروف ولا النهي عن كل منكر .
سلمنا أنها للعموم لكن قوله : ( كنتم ) يدل على كونهم متصفين بهذه الصفة في الماضي ولا يلزم من ذلك اتصافهم بذلك في الحال ، بل ربما دل على عدم اتصافهم بذلك في الحال نظرا إلى قاعدة المفهوم ، وعلى هذا فما وجد من أمرهم ونهيهم لا نعلم أنه كان قبل نزول الآية فيكون حجة ، أو بعدها فلا يكون حجة .
سلمنا اتصافهم بذلك في الماضي والحال ، ولكن ليس فيه ما يدل على استدامتهم لذلك في المستقبل ، وعلى هذا ، فما وجد من أمرهم ونهيهم مما لا يعلم أنه كان في حالة كونه حجة أو في غيرها .
سلمنا دلالة الآية على ذلك في جميع الأزمان ، لكنه مع الموجودين في زمن النبي عليه السلام ولا يلزم مثله في حق من بعدهم .
سلمنا أنه خطاب مع الكل ، لكن ذلك يستدعي كون كل واحد منهم على هذه الصفة ، ونحن نعلم خلاف ذلك ضرورة ، وإذا كان المراد بالآية بعض الأمة فذلك البعض غير معين ولا معلوم ، فلا يكون قوله حجة .
والجواب عن السؤال الأول ما سيأتي في العمومات ، كيف وأن الآية إنما وردت في معرض التعظيم لهذه الأمة وتمييزها على غيرها من الأمم ؟ فلو كانت الآية محمولة على البعض دون البعض لبطلت فائدة التخصيص ، فإنه ما من أمة إلا وقد أمرت بالمعروف كاتباع أنبيائهم وشرائعهم ، ونهت عن المنكر كنهيهم عن الإلحاد وتكذيب أنبيائهم .
وعن الثاني ، إنه إما أن تكون ( كان ) هاهنا زائدة أو تامة أو زمانية .
[ ص: 216 ] فإن كانت زائدة كما في قول : الفرزدق
فكيف إذا مررت بدار قوم وجيران لنا كانوا كراما
[1] فإنه جعل ( كراما ) نعتا للجيران وألغى ( كان ) فهي دالة على اتصافهم بذلك حالا ، لا في الماضي وإن أفادت نصب ( خير أمة ) كما في قوله تعالى : ( كيف نكلم من كان في المهد صبيا ) .وإن كانت تامة ، وهي التي تكون بمعنى الوقوع والحدوث ، ويكتفى فيها باسم واحد لا خبر فيه كما في قوله تعالى : ( وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة ) معناه حضر أو وقع ذو عسرة ، وكقول الشاعر :
إذا كان الشتاء فأدفئوني فإن الشيخ يهدمه الشتاء
فيكون معنى قوله : ( كنتم خير أمة ) أي : وجدتم ، ويكون قوله : ( خير أمة ) نصبا على الحال ، فيكون ذلك دليلا على اتصافهم بذلك في الحال لا في الماضي .
وإن كانت زمانية وهي الناقصة التي تحتاج إلى اسم وخبر ، فكان ، وإن دلت على الماضي فقوله : ( تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ) يقتضي كونهم كذلك في كل حال لورود ذلك في معرض التعظيم لهذه الأمة على ما سبق تقريره في جواب السؤال الذي قبله [2] .
وعن الثالث أن قوله : ( تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ) فعل مضارع صالح للحال والاستقبال .
ويجب أن يكون حقيقة فيهما على العموم نفيا للتجوز والاشتراك عن اللفظ .
وعن الرابع أنه إذا سلم كون الآية حجة في إجماع الصحابة فهو كاف [3] إذ هو من جملة صور النزاع .
[ ص: 217 ] وعن الخامس أن الخطاب إذا كان مع الأمة كان ذلك حجة في ما وجد من أمرهم ونهيهم جملة وذلك هو المطلوب ، وإن لم يكن ذلك حجة في الأفراد .
الآية الرابعة واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ) ووجه الاحتجاج بها ، أنه تعالى نهى عن التفرق ، ومخالفة الإجماع تفرق ، فكان منهيا عنه . قوله تعالى : (
ولا معنى لكون الإجماع حجة سوى النهي عن مخالفته .
فإن قيل : لا نسلم وجود صيغة النهي - وإن سلمناها - ولكن لا نسلم أن النهي يدل على التحريم كما سيأتي تقريره في النواهي .
سلمنا دلالة النهي على التحريم ، ولكن لا نسلم عموم النهي عن التفرق في كل شيء ، بل التفرق في الاعتصام بحبل الله إذ هو المفهوم من الآية ، ولهذا فإنه لو قال القائل لعبيده : ( ادخلوا البلد أجمعين ولا تتفرقوا ) فإنه يفهم منه النهي عن التفرق في دخول البلد ، وما لم يعلم أن ما أجمع عليه أهل العصر اعتصام بحبل الله ؛ فلا يكون التفرق منهيا عنه .
سلمنا أن النهي عام في كل تفرق ، ولكنه مخصوص بما قبل الإجماع .
فإن كل واحد من المجتهدين مأمور باتباع ما أوجبه ظنه ، وإذا كانت الظنون والآراء مختلفة كان التفرق مأمورا به لا منهيا عنه ، والعام بعد التخصيص لا يبقى حجة على ما سيأتي .
سلمنا صحة الاحتجاج به ، لكنه خطاب مع الموجودين في زمن النبي عليه السلام ، فلا يكون متناولا لمن بعدهم .
وإجماع الموجودين في زمن النبي غير محتج به في زمانه إجماعا ، ولا تحقق لوجودهم بجملتهم بعد وفاته ؛ حتى يكون إجماعهم حجة على ما سبق تقريره .
والجواب عن السؤال الأول والثاني ما سيأتي في النواهي .
وعن الثالث أن قوله : ( واعتصموا بحبل الله جميعا ) أمر بالاعتصام بحبل الله ، وقوله : ( ولا تفرقوا ) نهي عن التفرق في كل شيء ، ويجب الحمل عليه وإلا كان النهي عن التفرق في الاعتصام بحبل الله مفيدا لما أفاده الأمر بالاعتصام به ، فكان تأكيدا ، والأصل في الكلام التأسيس دون التأكيد .
[ ص: 218 ] وعن الرابع بيان كون العام حجة بعد التخصيص كما يأتي في العمومات ، وعلى هذا فيبقى حجة في امتناع التفرق بعد الإجماع وفي امتناع مخالفة من وجد بعد أهل الإجماع لهم ، وهو المطلوب .
وعن الخامس بأن الأمر والنهي إنما هو مع أهل كل عصر بتقدير وجودهم وفهمهم على ما سيأتي تقريره في الأوامر .
الآية الخامسة قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ) .
ووجه الاحتجاج بالآية : أنه شرط التنازع في وجوب الرد إلى الكتاب والسنة ، والمشروط على العدم عند عدم الشرط ، وذلك يدل على أنه إذا لم يوجد التنازع فالاتفاق على الحكم كاف عن الكتاب والسنة ، ولا معنى لكون الإجماع حجة سوى هذا .
فإن قيل : سقوط وجوب الرد إلى الكتاب والسنة عند الاتفاق على الحكم بناء على الكتاب والسنة ، أو من غير بناء عليهما ، فإن كان الأول فالكتاب والسنة كافيان في الحكم ولا حاجة إلى الإجماع .
وإن كان الثاني ففيه تجويز وقوع الإجماع من غير دليل ، وذلك محال مانع من صحة الإجماع .
كيف وإنا لا نسلم انتفاء الشرط ، فإن الكلام إنما هو مفروض فيما إذا وجد التنازع ممن تأخر من المجتهدين لإجماع المتقدمين .
قلنا : وإن كان الإجماع لا بد له من دليل ، فلا نسلم انحصار دليله في الكتاب والسنة ليصح ما ذكروه لجواز أن يكون مستندهم في ذلك إنما هو القياس والاستنباط على ما يأتي بيانه .
وإن سلمنا انحصار دليل الإجماع في الكتاب والسنة ، ولكن ليس في ذلك ما يدل على عدم اكتفاء من وجد بعد أهل الإجماع ، أو اكتفاء من وجد في عصرهم من المقلدة بإجماعهم عن معرفة الكتاب والسنة .
وأما السؤال الثاني فمشكل جدا .
واعلم أن التمسك بهذه الآيات وإن كانت مفيدة للظن فغير مفيدة للقطع ، ومن زعم أن المسألة قطعية فاحتجاجه فيها بأمر ظني غير مفيد للمطلوب ، وإنما يصح ذلك على رأي من يزعم أنها اجتهادية ظنية .
هذا ما يتعلق بالكتاب [ ص: 219 ] وأما السنة وهي أقرب الطرق في إثبات كون الإجماع حجة قاطعة ، فمن ذلك ما روى أجلاء الصحابة كعمر ، ، وابن مسعود ، وأبي سعيد الخدري ، وأنس بن مالك ، وابن عمر ، وأبي هريرة وغيرهم ، بروايات مختلفة الألفاظ متفقة المعنى في الدلالة على عصمة هذه الأمة عن الخطأ والضلالة كقوله عليه السلام : " وحذيفة بن اليمان أمتي لا تجتمع على الخطأ ، ، أمتي لا تجتمع على الضلالة ولم يكن الله بالذي يجمع أمتي على الضلالة ، لم يكن الله ليجمع أمتي على الخطأ ، وسألت الله أن لا يجمع أمتي على الضلالة فأعطانيه " .