الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          الإحكام في أصول الأحكام

          الآمدي - علي بن محمد الآمدي

          الآية الثالثة قوله تعالى : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ) والألف واللام إذا دخلت على اسم الجنس عمت على ما سيأتي ، ومقتضى صدق الخبر بذلك أمرهم بكل معروف ونهيهم عن كل منكر ، فإذا أمروا بشيء إما أن يكون معروفا أو منكرا ، لا جائز أن يكون منكرا وإلا لكانوا ناهين عنه ضرورة العمل بالعموم الذي ذكرناه لا آمرين به ، وإن كان [ ص: 215 ] معروفا ، فخلافه يكون منكرا وهو المطلوب ، وإذا نهوا عن شيء ، فإما أن يكون منكرا ، أو معروفا لا جائزا أن يكون معروفا ، وإلا لكانوا آمرين به ضرورة ما ذكرناه من العموم لا ناهين عنه .

          وإن كان منكرا فخلافه يكون معروفا وهو المطلوب .

          فإن قيل : لا نسلم أن الألف واللام الداخلة على اسم الجنس للاستغراق على ما سيأتي ، وعلى هذا فلا تكون الآية عامة في الأمر بكل معروف ولا النهي عن كل منكر .

          سلمنا أنها للعموم لكن قوله : ( كنتم ) يدل على كونهم متصفين بهذه الصفة في الماضي ولا يلزم من ذلك اتصافهم بذلك في الحال ، بل ربما دل على عدم اتصافهم بذلك في الحال نظرا إلى قاعدة المفهوم ، وعلى هذا فما وجد من أمرهم ونهيهم لا نعلم أنه كان قبل نزول الآية فيكون حجة ، أو بعدها فلا يكون حجة .

          سلمنا اتصافهم بذلك في الماضي والحال ، ولكن ليس فيه ما يدل على استدامتهم لذلك في المستقبل ، وعلى هذا ، فما وجد من أمرهم ونهيهم مما لا يعلم أنه كان في حالة كونه حجة أو في غيرها .

          سلمنا دلالة الآية على ذلك في جميع الأزمان ، لكنه مع الموجودين في زمن النبي عليه السلام ولا يلزم مثله في حق من بعدهم .

          سلمنا أنه خطاب مع الكل ، لكن ذلك يستدعي كون كل واحد منهم على هذه الصفة ، ونحن نعلم خلاف ذلك ضرورة ، وإذا كان المراد بالآية بعض الأمة فذلك البعض غير معين ولا معلوم ، فلا يكون قوله حجة .

          والجواب عن السؤال الأول ما سيأتي في العمومات ، كيف وأن الآية إنما وردت في معرض التعظيم لهذه الأمة وتمييزها على غيرها من الأمم ؟ فلو كانت الآية محمولة على البعض دون البعض لبطلت فائدة التخصيص ، فإنه ما من أمة إلا وقد أمرت بالمعروف كاتباع أنبيائهم وشرائعهم ، ونهت عن المنكر كنهيهم عن الإلحاد وتكذيب أنبيائهم .

          وعن الثاني ، إنه إما أن تكون ( كان ) هاهنا زائدة أو تامة أو زمانية .

          [ ص: 216 ] فإن كانت زائدة كما في قول الفرزدق :


          فكيف إذا مررت بدار قوم وجيران لنا كانوا كراما

          [1] فإنه جعل ( كراما ) نعتا للجيران وألغى ( كان ) فهي دالة على اتصافهم بذلك حالا ، لا في الماضي وإن أفادت نصب ( خير أمة ) كما في قوله تعالى : ( كيف نكلم من كان في المهد صبيا ) .

          وإن كانت تامة ، وهي التي تكون بمعنى الوقوع والحدوث ، ويكتفى فيها باسم واحد لا خبر فيه كما في قوله تعالى : ( وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة ) معناه حضر أو وقع ذو عسرة ، وكقول الشاعر :


          إذا كان الشتاء فأدفئوني     فإن الشيخ يهدمه الشتاء



          فيكون معنى قوله : ( كنتم خير أمة ) أي : وجدتم ، ويكون قوله : ( خير أمة ) نصبا على الحال ، فيكون ذلك دليلا على اتصافهم بذلك في الحال لا في الماضي .

          وإن كانت زمانية وهي الناقصة التي تحتاج إلى اسم وخبر ، فكان ، وإن دلت على الماضي فقوله : ( تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ) يقتضي كونهم كذلك في كل حال لورود ذلك في معرض التعظيم لهذه الأمة على ما سبق تقريره في جواب السؤال الذي قبله [2] .

          وعن الثالث أن قوله : ( تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ) فعل مضارع صالح للحال والاستقبال .

          ويجب أن يكون حقيقة فيهما على العموم نفيا للتجوز والاشتراك عن اللفظ .

          وعن الرابع أنه إذا سلم كون الآية حجة في إجماع الصحابة فهو كاف [3] إذ هو من جملة صور النزاع .

          [ ص: 217 ] وعن الخامس أن الخطاب إذا كان مع الأمة كان ذلك حجة في ما وجد من أمرهم ونهيهم جملة وذلك هو المطلوب ، وإن لم يكن ذلك حجة في الأفراد .

          الآية الرابعة قوله تعالى : ( واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ) ووجه الاحتجاج بها ، أنه تعالى نهى عن التفرق ، ومخالفة الإجماع تفرق ، فكان منهيا عنه .

          ولا معنى لكون الإجماع حجة سوى النهي عن مخالفته .

          فإن قيل : لا نسلم وجود صيغة النهي - وإن سلمناها - ولكن لا نسلم أن النهي يدل على التحريم كما سيأتي تقريره في النواهي .

          سلمنا دلالة النهي على التحريم ، ولكن لا نسلم عموم النهي عن التفرق في كل شيء ، بل التفرق في الاعتصام بحبل الله إذ هو المفهوم من الآية ، ولهذا فإنه لو قال القائل لعبيده : ( ادخلوا البلد أجمعين ولا تتفرقوا ) فإنه يفهم منه النهي عن التفرق في دخول البلد ، وما لم يعلم أن ما أجمع عليه أهل العصر اعتصام بحبل الله ؛ فلا يكون التفرق منهيا عنه .

          سلمنا أن النهي عام في كل تفرق ، ولكنه مخصوص بما قبل الإجماع .

          فإن كل واحد من المجتهدين مأمور باتباع ما أوجبه ظنه ، وإذا كانت الظنون والآراء مختلفة كان التفرق مأمورا به لا منهيا عنه ، والعام بعد التخصيص لا يبقى حجة على ما سيأتي .

          سلمنا صحة الاحتجاج به ، لكنه خطاب مع الموجودين في زمن النبي عليه السلام ، فلا يكون متناولا لمن بعدهم .

          وإجماع الموجودين في زمن النبي غير محتج به في زمانه إجماعا ، ولا تحقق لوجودهم بجملتهم بعد وفاته ؛ حتى يكون إجماعهم حجة على ما سبق تقريره .

          والجواب عن السؤال الأول والثاني ما سيأتي في النواهي .

          وعن الثالث أن قوله : ( واعتصموا بحبل الله جميعا ) أمر بالاعتصام بحبل الله ، وقوله : ( ولا تفرقوا ) نهي عن التفرق في كل شيء ، ويجب الحمل عليه وإلا كان النهي عن التفرق في الاعتصام بحبل الله مفيدا لما أفاده الأمر بالاعتصام به ، فكان تأكيدا ، والأصل في الكلام التأسيس دون التأكيد .

          [ ص: 218 ] وعن الرابع بيان كون العام حجة بعد التخصيص كما يأتي في العمومات ، وعلى هذا فيبقى حجة في امتناع التفرق بعد الإجماع وفي امتناع مخالفة من وجد بعد أهل الإجماع لهم ، وهو المطلوب .

          وعن الخامس بأن الأمر والنهي إنما هو مع أهل كل عصر بتقدير وجودهم وفهمهم على ما سيأتي تقريره في الأوامر .

          الآية الخامسة قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ) .

          ووجه الاحتجاج بالآية : أنه شرط التنازع في وجوب الرد إلى الكتاب والسنة ، والمشروط على العدم عند عدم الشرط ، وذلك يدل على أنه إذا لم يوجد التنازع فالاتفاق على الحكم كاف عن الكتاب والسنة ، ولا معنى لكون الإجماع حجة سوى هذا .

          فإن قيل : سقوط وجوب الرد إلى الكتاب والسنة عند الاتفاق على الحكم بناء على الكتاب والسنة ، أو من غير بناء عليهما ، فإن كان الأول فالكتاب والسنة كافيان في الحكم ولا حاجة إلى الإجماع .

          وإن كان الثاني ففيه تجويز وقوع الإجماع من غير دليل ، وذلك محال مانع من صحة الإجماع .

          كيف وإنا لا نسلم انتفاء الشرط ، فإن الكلام إنما هو مفروض فيما إذا وجد التنازع ممن تأخر من المجتهدين لإجماع المتقدمين .

          قلنا : وإن كان الإجماع لا بد له من دليل ، فلا نسلم انحصار دليله في الكتاب والسنة ليصح ما ذكروه لجواز أن يكون مستندهم في ذلك إنما هو القياس والاستنباط على ما يأتي بيانه .

          وإن سلمنا انحصار دليل الإجماع في الكتاب والسنة ، ولكن ليس في ذلك ما يدل على عدم اكتفاء من وجد بعد أهل الإجماع ، أو اكتفاء من وجد في عصرهم من المقلدة بإجماعهم عن معرفة الكتاب والسنة .

          وأما السؤال الثاني فمشكل جدا .

          واعلم أن التمسك بهذه الآيات وإن كانت مفيدة للظن فغير مفيدة للقطع ، ومن زعم أن المسألة قطعية فاحتجاجه فيها بأمر ظني غير مفيد للمطلوب ، وإنما يصح ذلك على رأي من يزعم أنها اجتهادية ظنية .

          هذا ما يتعلق بالكتاب [ ص: 219 ] وأما السنة وهي أقرب الطرق في إثبات كون الإجماع حجة قاطعة ، فمن ذلك ما روى أجلاء الصحابة كعمر ، وابن مسعود ، وأبي سعيد الخدري ، وأنس بن مالك ، وابن عمر ، وأبي هريرة ، وحذيفة بن اليمان وغيرهم ، بروايات مختلفة الألفاظ متفقة المعنى في الدلالة على عصمة هذه الأمة عن الخطأ والضلالة كقوله عليه السلام : " أمتي لا تجتمع على الخطأ ، أمتي لا تجتمع على الضلالة ، ولم يكن الله بالذي يجمع أمتي على الضلالة ، لم يكن الله ليجمع أمتي على الخطأ ، وسألت الله أن لا يجمع أمتي على الضلالة فأعطانيه " .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية