المسألة السابعة
ذهب الأكثرون من القائلين بالإجماع إلى أن الإجماع المحتج به غير مختص بإجماع الصحابة بل حجة خلافا إجماع أهل كل عصر لداود وشيعته من أهل الظاهر ، في إحدى الروايتين عنه ولأحمد بن حنبل [1]
والأول هو المختار ويدل عليه أن حجة كون الإجماع حجة غير خارجة كما ذكرناه من الكتاب والسنة والمعقول ، وكل واحد منها لا يفرق بين أهل عصر وعصر ، بل هو متناول لأهل كل عصر حسب تناوله لأهل عصر الصحابة ، فكان إجماع أهل كل عصر حجة .
فإن قيل : حجة كون الإجماع حجة غير خارجة عن الآيات والأخبار السابق ذكرها ، وقوله تعالى : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس ) ، وقوله : ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا ) مع الموجودين في زمن النبي عليه السلام ، فلا يكون متناولا لغيرهم ، وقوله تعالى : ( ويتبع غير سبيل المؤمنين ) والأخبار على [2] عصمة الأمة خاصة [ ص: 231 ] بالصحابة الموجودين في زمن النبي عليه السلام ، إذا هم كل المؤمنين وكل الأمة ، فإن من لم يوجد بعد ، لا يكون موصوفا بالإيمان وبكونه من الأمة .
وأما التابعون وكذلك من بعدهم إذا أجمعوا على حكم ، فليس هم كل المؤمنين ولا كل الأمة ، فلا يكون الخطاب متناولا لهم وحدهم ، بل مع من تقدم من المؤمنين قبلهم ضرورة اتصافهم بذلك حالة وجودهم ، وبموتهم لم يخرجوا عن كونهم من المؤمنين ومن الأمة .
وكذلك فإنه لو ذهب واحد من الصحابة إلى حكم ، واتفق التابعون على خلافه لم يكن إجماعهم منعقدا ، ولو خرج بموته عن الأمة والمؤمنين لما كان كذلك .
وإذا لم يكن التابعون كل الأمة ولا كل المؤمنين ، فما اتفقوا عليه لا يكون هو قول كل الأمة ولا كل المؤمنين ، فلا يكون حجة .
وسواء وجد لمن تقدم قول أو لم يوجد ، فمخالفهم لا يكون مخالفا لكل الأمة ولا لكل المؤمنين ، فلا يكون بذلك مستحقا للذم والتوعد .
سلمنا دلالة الآيات والأخبار على انعقاد إجماع من بعد الصحابة حجة لكنه معارض بما يدل على عدمه ، وبيانه من ستة أوجه :
الأول : أن لا بد له من دليل ، وذلك الدليل إما أن يكون نصا أو إجماعا أو قياسا . إجماع التابعين
فإن كان إجماع من تقدم فالحكم ثابت بإجماع الصحابة لا بإجماع التابعين .
وإن كان قياسا ، فيستدعي أن يكون متفقا عليه بين جميع التابعين ليكون مناط إجماعهم ، وليس كذلك لوقوع الخلاف فيه فيما بينهم .
وإن كان نصا ، فلا بد وأن تكون الصحابة عالمة به ضرورة أنه لا طريق إلى معرفة التابعين به إلا من جهة الصحابة ، ولو كان ذلك دليلا يمكن التمسك به في إثبات الحكم لما تصور تواطؤ الصحابة على تركه وإهماله .
الثاني : هو أن الأصل أن لا يرجع إلى قول أحد سوى الصادق المؤيد بالمعجزة لتطرق الخطأ والكذب إلى من عداه ، غير أنه لما ورد الثناء من النبي عليه السلام [ ص: 232 ] على الصحابة بقوله : " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم [3] " ، وقوله : " " ، والذم لأهل الأعصار المتأخرة بقوله عليه السلام ثم يفشو الكذب ، وأن الرجل يصبح مؤمنا ويمسي كافرا ، وأن الواحد منهم يحلف على ما لا يعلم ويشهد قبل أن يستشهد ، وأن الناس يكونون كالذئاب ، إلى غير ذلك من أنواع الذم التي سبق ذكرها عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي [4] ، أوجب قصر الاحتجاج على إجماع الصحابة دون غيرهم .
الثالث : أن الاحتجاج بالإجماع إنما يمكن بعد الاطلاع على قول كل واحد من أهل الحل والعقد ومعرفته في نفسه .
وذلك إنما يتصور في حق الصحابة ; لأن أهل الحل والعقد منهم كانوا معروفين مشهورين محصورين لقلتهم وانحصارهم في قطر واحد ، بخلاف التابعين ، ومن بعدهم لكثرتهم وتشتتهم في البلاد المتباعدة .
الرابع : أن الإجماع من الصحابة واقع على أن كل مسألة لا تكون مجمعا عليها ولا فيها نص قاطع أنه يجوز الاجتهاد فيها .
فإذا لم يكن إجماع من الصحابة ، ولا ثم نص قاطع ، وإلا لما ساغ من الصحابة تركه وإهماله ، فتكون المسألة مجمعا على جواز الاجتهاد فيها منهم ، فلو أجمع التابعون على حكم تلك المسألة فإن منعنا من اجتهاد غيرهم فيها ، فقد خرقنا إجماع الصحابة وإن جوزنا ، فإجماع التابعين لا يكون حجة وهو المطلوب .
الخامس : أنه لو كان في الأمة من هو غائب فإنه وإن لم يكن له في المسألة قول بنفي ، ولا إثبات لا ينعقد الإجماع دونه في تلك المسألة لكونه لو كان حاضرا لكان له فيها قول ، فكذلك الميت من الصحابة قبل التابعين .
[ ص: 233 ] السادس : أنه لو كان قد خالف واحد من الصحابة فإن إجماع التابعين بعده لا ينعقد ، وإذا لم ينقل خلاف من تقدم لا ينعقد الإجماع لاحتمال أن أحدا ممن تقدم خالف ولم ينقل خلافه ، وإذا احتمل واحتمل ، فالإجماع لا يكون متيقنا .
والجواب عن السؤال الأول : قولهم في الآيات إنها خطاب مع الموجودين في زمن النبي عليه السلام يلزمهم عليه أن لا ينعقد إجماع الصحابة بعد موت من كان موجودا عند نزول هذه الآيات ; لأن إجماعهم ليس إجماع جميع المخاطبين وقت نزولها ، وأن لا يعتد بخلاف من أسلم بعد نزولها لكونه خارجا عن المخاطبين .
وقد أجمعنا على أن إجماع من بقي من الصحابة بعد رسول الله يكون حجة .
قولهم : التابعون ليس هم كل الأمة ولا كل المؤمنين يلزم عليه أن لا ينعقد إجماع من بقي من الصحابة بعد موت رسول الله ; لأن من مات من الصحابة أو استشهد في حياة رسول الله داخل في مسمى المؤمنين والأمة ، وهو خلاف المجمع عليه بين القائلين بالإجماع وليس ذلك ، إلا لأن الماضي إذا لم يكن له قول غير معتبر كما أن المستقبل غير منتظر .
وعلى هذا فنقول : إنه إذا ذهب واحد من الصحابة إلى حكم في مسألة ثم مات وأجمع التابعون على خلافه في تلك المسألة ، فقد قال بعض الأصوليين : إنه ينعقد إجماع التابعين ولا اعتبار بقول الماضي ، وليس بحق ؛ لأنه يلزم منه أنه إذا أجمعت الصحابة على حكم ، ثم ماتوا وأجمع التابعون على خلاف إجماع الماضين ، أنه ينعقد وهو محال مخالف لإجماع القائلين بالإجماع .
وإنما الحق في ذلك أن يقال : إذا حكم الواحد من الصحابة بحكم ثم حكم التابعون بخلافه ، فحكم التابعين ليس هو حكم جميع الأمة المعتبرين في تلك المسألة التي وقع الخوض فيها .
وإن كان حكمهم في مسألة لم يتقدم فيها خلاف بعض الصحابة فهو حكم كل الأمة المعتبرين ، وهذا كما لو أفتى الصحابي بحكم ثم مات ، وأجمع باقي الصحابة على خلافه فإنه لا ينعقد إجماعهم ، وإن انعقد إجماعهم إذا مات من غير مخالفة ; لأن حكمهم في الأول ليس هو حكم كل الأمة المعتبرين بخلاف حكمهم في الثاني .
[ ص: 234 ] والجواب عن المعارضة الأولى أنه وإن كان دليل التابعين معلوما للصحابة ، غير أنه لا يمتنع أن تكون واقعة الحكم لم تقع في زمن الصحابة فلم يتعرضوا لحكمها ، وإنما وقعت في زمن التابعين فتعرضوا لإثبات حكمها بناء على ما وجدوه من الدليل الذي كان معلوما للصحابة .
وعن الثانية : أن الأدلة الدالة على كون الإجماع حجة لا تفرق بين أهل عصر وعصر ، وقوله عليه السلام : " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم [5] " لا يدل على عدم الاهتداء بغيرهم إلا بطريق مفهوم اللقب ، والمفهوم ليس بحجة فضلا عن مفهوم اللقب على ما سيأتي في مسائل المفهوم .
وكذلك الكلام في قوله : " أبي بكر وعمر " كيف وأن ذلك مما يوجب كون إجماع اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر مع مخالفة باقي الصحابة لهم حجة قاطعة ، وهو خلاف الإجماع من الصحابة ؟
قولهم : إنه ذم أهل الأعصار المتأخرة .
قلنا : غاية ما في ذلك غلبة ظهور الفساد والكذب ، وليس فيه ما يدل على خلو كل عصر ممن تقوم الحجة بقوله [6] ، وأنه [7] إذا اتفق أهل ذلك العصر على حكم لا يكونون معصومين عن الخطأ فيه .
وعن الثالثة : ما سبق في مسألة تصور الاطلاع على إجماعهم ومعرفتهم .
وعن الرابعة : أنه إن أجمع الصحابة على تجويز الخلاف مطلقا فلا يتصور انعقاد إجماع التابعين على الحكم في تلك المسألة ، لما فيه من التعارض بين الإجماعين القاطعين ، وإن أجمعوا على تسويغ الاجتهاد مشروطا بعدم الإجماع فلا تناقض .
وعن الخامسة : أنها منتقضة بالواحد من الصحابة ، فإنه لو مات انعقد الإجماع [ ص: 235 ] من باقي الصحابة دونه ولو كان غائبا لم ينعقد ، وإنما كان كذلك ; لأن الغائب في الحال له أهلية القول والحكم والموافقة والمخالفة بخلاف الميت .
وعن السادسة : أنها باطلة بالميت الأول من الصحابة ; فإنه يحتمل أنه خالف ولم ينقل خلافه ، ومع ذلك فإن إجماع باقي الصحابة بعده يكون منعقدا ، كيف وإن النظر إلى مثل هذه الاحتمالات البعيدة مما لا التفات إليه .
وإلا لما انعقد إجماع الصحابة لاحتمال أن يكون واحد منهم قد أظهر الموافقة وأبطن المخالفة لأمر من الأمور ، كما نقل عن في موافقته ابن عباس لعمر في مسألة العول وإظهار النكير بعده .