المسألة الثامنة
اختلفوا في ، فذهب الأكثرون إلى أنه لا ينعقد ، وذهب انعقاد إجماع الأكثر مع مخالفة الأقل ، محمد بن جرير الطبري وأبو بكر الرازي ، وأبو الحسين الخياط من المعتزلة في إحدى الروايتين عنه إلى انعقاده . وأحمد بن حنبل
وذهب قوم إلى أن عدد الأقل إن بلغ التواتر لم يعتد بالإجماع دونه وإلا كان معتدا به .
وقال أبو عبد الله الجرجاني : إن سوغت الجماعة الاجتهاد في مذهب المخالف كان خلافه معتدا به كخلاف في مسألة العول ، وإن أنكرت الجماعة عليه ذلك كخلاف ابن عباس في المتعة والمنع من تحريم ربا الفضل لم يكن خلافه معتدا به . ابن عباس
ومنهم من قال : إن قول الأكثر يكون حجة وليس بإجماع ، ومنهم من قال : إن اتباع الأكثر أولى وإن جاز خلافه ، والمختار مذهب الأكثرين ، ويدل عليه أمران :
الأول : أن التمسك في إثبات الإجماع حجة إنما هو بالأخبار الواردة في السنة الدالة على عصمة الأمة على ما سبق تقريره ، وعند ذلك ، فلفظ ( الأمة ) في الأخبار يحتمل أنه أراد به كل الموجودين ، من المسلمين في أي عصر كان .
ويحتمل أنه أراد به الأكثر كما يقال : بنو تميم يحمون الجار ويكرمون الضيف ، والمراد به الأكثر منهم ، غير أن حمله على الجميع مما يوجب العمل بالإجماع [ ص: 236 ] قطعا لدخول العدد الأكثر في الكل ، ولا كذلك إذا حمل على الأكثر فإنه لا يكون الإجماع مقطوعا به لاحتمال إرادة الكل ، والأكثر ليس هو الكل .
الثاني : أنه قد جرى مثل ذلك في زمن الصحابة ولم ينكر أحد منهم على خلاف الواحد ، بل سوغوا له الاجتهاد فيما ذهب إليه مع مخالفة الأكثر ، ولو كان إجماع الأكثر حجة ملزمة للغير الأخذ به لما كان كذلك ، فمن ذلك اتفاق أكثر الصحابة على امتناع قتال مانعي الزكاة مع خلاف أبي بكر لهم ، وكذلك خلاف أكثر الصحابة لما انفرد به في مسألة العول وتحليل المتعة وأنه لا ربا إلا في النسيئة . ابن عباس
وكذلك خلافهم فيما انفرد به في مسائل الفرائض ، لابن مسعود في مسألة العينة ، ولزيد بن أرقم ولأبي موسى في قوله : النوم لا ينقض الوضوء ، ولأبي طلحة في قوله بأن أكل البرد لا يفطر ، إلى غير ذلك .
ولو كان حجة ، لبادروا بالإنكار والتخطئة وما وجد منهم من الإنكار في هذه الصور لم يكن إنكار تخطئة ، بل إنكار مناظرة في المأخذ كما جرت عادة المجتهدين بعضهم مع بعض ، ولذلك بقي الخلاف الذي ذهب إليه الأقلون جائزا إلى وقتنا هذا ، وربما كان ما ذهب إليه الأقل هو المعول عليه الآن كقتال مانعي الزكاة ، ولو كان ذلك مخالفا للإجماع المقطوع به لما كان ذلك سائغا . إجماع الأكثر
وقد تمسك بعضهم هاهنا بطريقة أخرى ، فقال إنه لو فإما أن ينعقد الإجماع عليه ، فيلزم منه ترك ما علمه بالدليل ، والرجوع إلى التقليد وذلك في حق المجتهد ممتنع ، وإن لم ينعقد الإجماع عليه فلا يكون الإجماع حجة مقطوعا بها فإنه لو كان مقطوعا به لما ساغت مخالفته بالاجتهاد ، ولقائل أن يقول : إذا فرضنا أن انعقاد الإجماع من الأكثر دون الأقل حجة قاطعة ، فالقول برجوع الواحد إليه ، وإن كان على خلاف ما أوجبه اجتهاده ، لا يكون منكرا لما فيه من ترك الاجتهاد بالرجوع إلى الإجماع القاطع . انعقد إجماع الأكثر مع مخالفة الأقل
ولهذا فإنه لو أجمعت الأمة على حكم ثم جاء من بعدهم مجتهد يرى في اجتهاده ما يخالف إجماع الأمة السابقة ، لم يجز له الحكم به ، بل وجب عليه الرجوع إلى الأمة [1] .
[ ص: 237 ] احتج المخالفون بالنصوص والإجماع والمعقول .
أما من جهة النصوص فمنها ما ورد من الأخبار الدالة على عصمة الأمة عن الخطأ ، ولفظ ( الأمة ) يصح إطلاقه على أهل العصر وإن شذ منهم الواحد والاثنان كما يقال : بنو تميم يحمون الجار ، ويكرمون الضيف ، والمراد به الأكثر ، فكان إجماعهم حجة لدلالة النصوص عليه .
ومنها قوله عليه السلام : " عليكم بالسواد الأعظم عليكم بالجماعة يد الله مع الجماعة إياكم والشذوذ " ، والواحد والاثنان بالنسبة إلى الخلق الكثير شذوذ .
( ) ونحو ذلك من الأخبار . الشيطان مع الواحد وهو عن الاثنين أبعد
وأما الإجماع فهو أن الأمة اعتمدت في خلافة أبي بكر على انعقاد الإجماع عليه لما اتفق عليه الأكثرون وإن خالف في ذلك جماعة كعلي ، ولولا أن إجماع الأكثر حجة مع مخالفة الأقل ، لما كانت إمامة وسعد بن عبادة أبي بكر ثابتة بالإجماع ، وأما من جهة المعقول فمن خمسة أوجه :
الأول : أن خبر الواحد بأمر لا يفيد العلم ، وخبر الجماعة إذا بلغ عددهم عدد التواتر يفيد العلم ، فليكن مثله في باب الاجتهاد والإجماع .
الثاني : أن الكثرة يحصل بها الترجيح في رواية الخبر ، فليكن مثله في الاجتهاد .
الثالث : أنه لو اعتبرت مخالفة الواحد والاثنين لما انعقد الإجماع أصلا ; لأنه ما من إجماع إلا ويمكن مخالفة الواحد والاثنين فيه إما سرا وإما علانية .
الرابع : أن الإجماع حجة في العصر الذي هم فيه وفيما بعد ، وذلك يقتضي أن يكون فيهم مخالف حتى يكون حجة عليه .
الخامس : أن الصحابة أنكرت على خلافه في ربا الفضل في النقود وتحليل المتعة والعول ، ولولا أن اتفاق الأكثر حجة لما أنكروا عليه ، فإنه ليس للمجتهد الإنكار على المجتهد . ابن عباس
والجواب قولهم : لفظ ( الأمة ) يصح إطلاقه على الأكثر .
[ ص: 238 ] قلنا بطريق المجاز ، ولهذا يصح أن يقال : إذا شذ عن الجماعة واحد ليس هم كل الأمة ولا كل المؤمنين بخلاف ما إذا لم يشذ منهم أحد ، وعلى هذا فيجب حمل لفظ ( الأمة ) على الكل لكون الحجة فيه قطعية لما بيناه في حجتنا .
وعلى هذا فيجب حمل قوله عليه السلام : " عليكم بالسواد الأعظم [2] " على جميع أهل العصر ; لأنه لا أعظم منه .
فإن قيل : فظاهر هذا الخبر يقتضي أن يكون السواد الأعظم حجة على من ليس الأعظم وذلك لا يتم إلا بأن يكون في عصرهم مخالف لهم .
قلنا : هو حجة على من يأتي بعدهم أقل عددا منهم ، وعلى هذا يكون الجواب عن قوله : " " وحيث قال عليه السلام : " عليكم بالجماعة ، يد الله على الجماعة " ، إنما أراد به انعقاد جماعة الصلاة بهما ، وقوله : " الاثنان فما فوقهما جماعة إياكم والشذوذ " .
قلنا : الشاذ هو المخالف بعد الموافقة لا من خالف قبل الموافقة ، وقوله : " " أراد به الحث على طلب الرفيق في الطريق ، ولهذا قال " الشيطان مع الواحد وهو عن الاثنين أبعد " . والثلاثة ركب
وما ذكروه في عقد الإمامة لأبي بكر ، فلا نسلم أن الإجماع معتبر في انعقاد الإمامة ، بل البيعة بمحضر من عدلين كافية .
كيف وإنا لا نسلم عدم انعقاد إجماع الكل على بيعة أبي بكر ، فإن كل من تأخر عن البيعة إنما تأخر لعذر أو طرء أمر مع ظهور الموافقة منه بعد ذلك ، وقد استقصينا الكلام في هذا المعنى في الإمامة من علم الكلام .
والجواب عن الحجة الأولى من المعقول أنه إن كان صدق الأكثر فيما يخبرون به عن أمر محسوس مفيد للعلم ، فلا يلزم مثله في الإجماع الصادر عن الاجتهاد مع أن الاحتجاج فيه إنما هو بقول الأمة ، والأكثر ليس هم كل الأمة على ما سبق .
ثم لو كان كل من أفاد خبره اليقين يكون قوله إجماعا محتجا به لوجب أن يكون إجماع كل أهل بلد محتجا به مع مخالفة أهل البلد الآخر لهم ; لأن خبر أهل كل بلد يفيد العلم .
[ ص: 239 ] وعن الثانية أنه لا يلزم من الترجيح بالكثرة في الرواية التي يطلب منها غلبة الظن دون اليقين مثله في الإجماع ، مع كونه يقينيا ، كيف وإنه لو اعتبر في الإجماع ما يعتبر في الرواية لكان مصير الواحد إلى الحكم وحده إجماعا كما أن روايته وحده مقبولة ، وليس كذلك .
وعن الثالثة : أن الاحتجاج بالإجماع إنما يكون حيث علم الاتفاق من الكل إما بصريح المقال أو قرائن الأحوال ، وذلك ممكن حسب إمكان العلم باتفاق الأكثر ، وأما حيث لا يعلم فلا .
وإن قيل : إن ذلك غير ممكن ، فمثله أيضا جار في الأكثر ، ويلزم من ذلك أن لا ينعقد الإجماع أصلا ، وهو خلاف الأصلين [3]
وعن الرابعة : أنه يكون حجة على من خالف منهم بعد الوفاق في زمنهم ، وعلى من يوجد بعدهم ، ثم إن كان الإجماع لا يكون حجة إلا مع الخلاف ، فيلزم منه أنه إذا لم يكن خلاف لا يكون إجماع ، وهو ظاهر الإحالة .
وعن الخامسة : أن إنكار الصحابة على فيما ذهب إليه لم يكن بناء على إجماعهم واجتهادهم ، بل بناء على مخالفة ما رووه له من الأخبار الدالة على تحريم ربا الفضل ونسخ المتعة على ما جرت به عادة المجتهدين في مناظراتهم ، والإنكار على مخالفة ما ظهر لهم من الدليل حتى يبين لهم المأخذ من جانب الخصم ، وذلك كما قال ابن عباس : من شاء باهلني باهلته ، والذي أحصى رمل عالج عددا ما جعل الله في الفريضة نصفا ونصفا وثلثا ، هذان نصفان ذهبا بالمال فأين موضع الثلث ، وقال آخر : ألا يتقي الله ابن عباس زيد يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أب الأب أبا ، وليس ذلك لأن العود إلى قوله واجب على من خالفه بل بمعنى طلب الكشف عن مأخذ المخالفة .
وإذا عرف أنه لا يكون اتفاق الأكثر إجماعا ، فيمتنع أن يكون حجة لخروجه عن الأدلة المتفق عليها .
وهي النص من الكتاب والسنة ، وإجماع الأمة ، والقياس ، وعدم دليل يدل على صحة الاحتجاج به ، ولذلك لا يكون أولى بالاتباع ; لأن الترجيح بالكثرة وإن كان حقا في باب رواية الأخبار لما فيه من ظهور أحد الظنين على الآخر ، فلا يلزم مثله في باب الاجتهاد لما فيه من ترك ما ظهر له من الدليل لما لم يظهر له فيه دليل ، أو ظهر غير أنه مرجوح في نظره .