مما ذكر في أصل العقيدة لأنها خلقت للبقاء وإنما تموت الأبدان وقد دلت على هذا الأحاديث الدالة على نعيم الأرواح وعذابها بعد مفارقتها لأبدانها إلى أن يرجعها الله تعالى إليها ولو ماتت الأرواح لانقطع عنها النعيم والعذاب وقد قال الله تعالى بقاء الأرواح وأنه لا يلحقها عدم ولا فناء ولا اضمحلال ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم مع القطع بأن أرواحهم قد فارقت أجسادهم وقد ذاقت الموت ، قال المحقق ابن القيم : الصواب أن موت النفوس هو مفارقتها لأجسادها وخروجها منها فإن أريد بموتها هذا القدر فهي ذائقة الموت وإن أريد أنها تعدم وتضمحل وتصير عدما محضا فإنها لا تموت بهذا الاعتبار بل هي باقية بعد خلقها في نعيم أو عذاب ، وقد نظم أحمد بن الحسين الكندي هذا الاختلاف في قوله :
تنازع الناس حتى لا اتفاق لهم إلا على شجب والخلف في الشجب فقيل تخلص نفس المرء سالمة
وقيل تشرك جسم المرء في العطب
الشجب بالشين المعجمة والجيم فموحدة محركا : الحزن والعنت يصيب من مرض أو قتال كما في القاموس . فإن قيل فبعد النفخ في الصور هل تبقى الأرواح حية كما هي أو تموت ثم تحيا ؟ فالجواب قد قال الله تعالى [ ص: 38 ] ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله فقد استثنى الله تعالى بعض من في السماوات ومن في الأرض من هذا الصعق فقيل هم الشهداء ، وهذا قول أبي هريرة رضي الله عنهم وابن عباس رحمه الله . وسعيد بن جبير
وقيل هم جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت ، وهو قول مقاتل وغيره ، وقيل هم الذين في الجنة من الحور العين وغيرهم ومن في النار من أهل العذاب وخزنتها ، قال الإمام أبو إسحاق بن شاقلا من أصحابنا ، وقد نص إمامنا رضي الله عنه على أن الحور العين والولدان لا يموتون عند النفخ في الصور ، وقد أخبرنا سبحانه أن أهل الجنة الإمام أحمد لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى وهذا نص على أنهم لا يموتون غير تلك الموتة الأولى فلو ماتوا مرة ثانية لكانت موتتان ، وأما قول أهل النار ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فتفسر هذه الآية الآية التي في سورة البقرة وهي قوله تعالى كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم فكانوا أمواتا وهم نطف في أصلاب آبائهم وفي أرحام أمهاتهم ثم أحياهم بعد ذلك ثم أماتهم ثم يحييهم يوم النشور وليس في ذلك إماتة أرواحهم قبل يوم القيامة وإلا كانت ثلاث موتات .
وصعق الأرواح عند النفخ في الصور لا يلزم منه موتها ففي الحديث الصحيح " موسى آخذ بقائمة العرش فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة يوم الطور " فهذا صعق في موقف القيامة إذا جاء الله لفصل القضاء وأشرقت الأرض بنوره فحينئذ يصعق الخلائق كلهم قال الله تعالى إن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فإذا فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون ولو كان هذا الصعق موتا لكانت موتة أخرى .
قال الإمام المحقق ابن القيم في كتاب الروح : وقد تنبه لهذا جماعة من الفضلاء فقال أبو عبد الله القرطبي : ظاهر هذا الحديث أن هذه صعقة غشي تكون يوم القيامة لا صعقة الموت الحادثة عند نفخ الصور ، قال وقد قال شيخنا أحمد بن عمرو : ظاهر حديث النبي صلى الله عليه وسلم يدل على أن هذه الصعقة إنما هي بعد النفخة الثانية نفخة البعث ونص القرآن يقتضي أن ذلك الاستثناء إنما هو بعد نفخة الصعق ، ولما كان هذا قال بعض العلماء يحتمل [ ص: 39 ] أن يكون موسى عليه السلام ممن لم يمت من الأنبياء . وهذا باطل . وقال يحتمل أن يكون المراد بهذه صعقة فزع بعد النشور حين تنشق السماوات والأرض قال فتنسق الأحاديث والآثار . القاضي عياض
ورد عليه أبو العباس القرطبي فقال يرد هذا قوله في الحديث الصحيح أنه حين يخرج من قبره يلقى موسى آخذا بقائمة العرش ، قال وهذا إنما هو عند نفخة الفزع . قال أبو عبد الله القرطبي قال شيخنا أحمد بن عمرو الذي يزيح هذا الإشكال إن شاء الله تعالى أن الموت ليس بعدم محض وإنما هو انتقال من حال إلى حال ويدل على ذلك أن الشهداء بعد موتهم وقتلهم أحياء عند ربهم يرزقون فرحين وهذه صفة الأحياء في الدنيا ، وإذا كان هذا في الشهداء كان الأنبياء بذلك أحق وأولى ، مع أنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلموأنه صلى الله عليه وسلم اجتمع بالأنبياء ليلة الإسراء في أن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء بيت المقدس وفي السماء وخصوصا بموسى عليه وعليهم السلام ، وقد أخبر نبينا صلى الله عليه وسلم إلى غير ذلك مما يحصل من جملته القطع بأن موت الأنبياء إنما هو راجع إلى أنهم غيبوا عنا بحيث لا ندركهم وإن كانوا موجودين أحياء وذلك كالحال في الملائكة فإنهم أحياء موجودون ولا نراهم ، وإذا تقرر أنهم أحياء فإذا نفخ في الصور نفخة الصعق صعق كل من في السماوات والأرض إلا من شاء الله فإذا صعق غير الأنبياء موت ، وأما صعق الأنبياء فالأظهر أنه غشية فإذا نفخ في الصور نفخة البعث فمن مات حيي ومن غشي عليه أفاق ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته " أنه ما من مسلم يسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام " فنبينا صلى الله عليه وسلم فأكون أول من يفيق إلا أول من يخرج من قبره قبل جميع الناس موسى فإنه حصل فيه تردد هل بعث قبله من غشيته أو بقي على الحالة التي كان عليها قبل نفخة الصعق مفيقا لأنه حوسب بصعقة يوم الطور ، وهذه فضيلة عظيمة لموسى عليه السلام ، ولا يلزم من فضيلة واحدة فضيلة موسى عليه السلام على نبينا مطلقا لأن الشيء الجزئي لا يوجب أمرا كليا . انتهى .
قال أبو عبد الله القرطبي إن حمل الحديث على صعقة الخلق يوم القيامة فلا [ ص: 40 ] إشكال وإن حمل على صعقة الموت عند النفخ في الصور فيكون ذكر يوم القيامة مرادا به أوائله فالمعنى إذا نفخ في الصور نفخة البعث كنت أول من يرفع رأسه فإذا موسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور .
قال المحقق ابن القيم وحمل الحديث على هذا لا يصح لأنه صلى الله عليه وسلم تردد هل أفاق موسى قبله أو لم يصعق . بل جوزي بصعقة الطور ، فالمعنى لا أدري أصعق أم لم يصعق ، وقد قال في الحديث : " " ، وهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم يصعق فيمن يصعق ، ولو كان المراد به الصعقة الأولى وهي صعقة الموت لكان قد جزم بموته وتردد هل مات فأكون أول من يفيق موسى أو لم يمت ، وهذا باطل لوجوه كثيرة ، فعلم أنها صعقة فزع لا صعقة موت ، وحينئذ فلا تدل الآية على أن الأرواح تموت عند النفخة الأولى ، نعم تدل على موت الخلائق عند النفخة الأولى وكل من لم يذق الموت قبلها فإنه يذوقه حينئذ وأما من ذاق الموت أو لم يكتب عليه الموت فلا تدل الآية على أنه يموت موتة ثانية والله أعلم .