الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( التنبيه الثاني ) في بعض أدلة مذهب أهل الحق من تفضيل صالحي البشر على الملائكة خلافا للمعتزلة والفلاسفة ومن نحا نحوهم ، منها قوله تعالى : ( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ) فالمسجود له أفضل من الساجد ، فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون السجود لله تعالى وآدم كالقبلة ؟ [ ص: 402 ] فالجواب أنه لو لم يكن السجود دالا على ( علو ) منصب المسجود له على الساجد لما قال إبليس : ( أرأيتك هذا الذي كرمت علي ) إذ لم يوجد ما يصرف هذا الكلام إليه سوى هذا السجود ، فدل ذلك السجود على ترجيح منصب المسجود له على الساجد ، ( ومنها ) أن آدم - عليه السلام - كان أعلم من الملائكة ، والأعلم أفضل لقوله تعالى : ( هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) ، وقد قال تعالى : وعلم آدم الأسماء كلها - إلى قوله - قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ) ، ( ومنها ) أن طاعة البشر أشق ، والأشق أفضل فإن البشر مجبولون على الشهوة والحرص والغضب والهوى ونحوها وهذه من أكبر الموانع ، وهي مفقودة في الملك .

( ومنها ) قوله تعالى : ( إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ) والعالم عبارة عما سوى الله تعالى ، والآل يراد به الرجل نفسه ويراد به أقاربه الأدنون ويراد به أتباعه ، فإن قيل : يشكل هذا في قوله تعالى في بني إسرائيل : ( وأني فضلتكم على العالمين ) إذ يلزم على ظاهر هذا تفضيل أنبياء بني إسرائيل على محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فالجواب الآية أولا تحتمل التخصيص ، وثانيا من شرط المفضل عليه أن يكون موجودا حال وجود أنبياء بني إسرائيل ، أما الملائكة فهم موجودون حال وجود محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ( ومنها ) أن الملائكة لهم عقول بلا شهوة والبهائم لها شهوة بلا عقل ، والآدمي له عقل وشهوة ، ثم إن الآدمي إن رجحت شهوته على عقله كان أخس من البهائم كما قال تعالى : ( أولئك كالأنعام ) ، وقال : ( إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا ) وإذا رجح عقله على شهوته كان أفضل من الملائكة ، فمن يطيع الله وأوامره وطينته معجونة بالشهوة والهوى ، ويقمع شهوته ويخالف هواه تكون عبادته أفضل ، ألا ترى من ابتلي من الملائكة بالشهوة كيف وقع في المعصية على ما قيل ؟

وذكر نحو هذا البيهقي وقال : كما وقع لهاروت وماروت وساقها من ثلاث طرق ، ثم أخرج البيهقي عن عبد الله بن سلام - رضي الله عنه - أنه قال : إن أكرم خليقة الله على الله أبو القاسم صلى الله [ ص: 403 ] عليه وسلم ، قيل : رحمك الله وأين الملائكة ؟ قال : الملائكة خلق كخلق الأرض وخلق السحاب وخلق الجبال وخلق الرياح وسائر الخلائق ، وإن أكرم الخلائق على الله أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم - . وأخرج البيهقي أيضا عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : إن الله تعالى فضل محمدا على أهل السماء وعلى الأنبياء . قيل : وما فضله على أهل السماء ؟ قال : إن الله تعالى قال لأهل السماء : ( ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم ) ، وقال لمحمد - صلى الله عليه وسلم - : ( إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ) . وأخرج أيضا عن ابن عمرو قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما شيء أكرم على الله من بني آدم . قيل : يا رسول الله ولا الملائكة ؟ قال : الملائكة مجبورون بمنزلة الشمس والقمر " . قال البيهقي : تفرد به عبيد الله بن غانم السلمي عن خالد الحذاء ، وعبيد الله قال البخاري : عنده عجائب . قال : ورواه غيره عن خالد الحذاء موقوفا على ابن عمرو وهو الصحيح . قال البيهقي : ومن قال بالقول الآخر وهو تفضيل الملأ الأعلى على سكان الأرض أشبه أن يقول إذا كان التوفيق للطاعة من الله تعالى وجب أن يكون أفضل من يكون توفيقه له وعصمته إياه أكثر ، ووجدنا الطاعة التي وجودها بتوفيقه وعصمته من الملائكة أكثر فوجب أن يكون بذلك أفضل . وأخرج البيهقي أيضا حديث : " لما خلق الله تعالى آدم وذريته قالت الملائكة : رب خلقتهم يأكلون ويشربون وينكحون ويركبون فاجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة ، فقال الله تبارك وتعالى : لا أجعل من خلقته بيدي ونفخت فيه من روحي كمن قلت له : كن فكان " . قال : وفي ثبوته نظر . انتهى .

وقال العز بن عبد السلام في أثناء كلام له في أنواع التفاضل بين الحوادث من الجواهر والأجسام : لا يفضل الملائكة على الأنبياء إلا هجام ، بنى التفضيل على خيالات توهمها وأوهام فاسدة تعمدها ، ولم ينفوا الخيالات والتوهمات في أمور يعلم أنه خلافها . انتهى . وقال الإمام ابن عقيل - من علمائنا - في كتابه الإرشاد : مؤمنو أولاد آدم من الأولياء والزهاد والأنبياء من طريق الأولى أشرف من الملائكة على قول أصحابنا ، قال : وعندي أن فيه تفصيلا ، وذلك أن من الملائكة من لا يجوز أن يفضل عليه الأولياء مثل جبريل [ ص: 404 ] وميكائيل وملك الموت والمقربين ، ولكني أفضل عليهم الأنبياء ، ومنهم من يفضل عليه أولياء بني آدم ، وهم من عدا المقربين من الملائكة السياحة وغير ذلك . قال : والدلالة على أن خواص الملائكة المرسلين والمقربين خير من الأولياء خلافا لأصحابنا أن هؤلاء ساووهم في العبادة ، وفضلوا بالقرب والرسالة وسماع الكلام من الله تعالى الذي شرف بسماعه موسى - عليه السلام - على غيره ، وهذه الرتبة عظيمة لمن عقلها ، وفارق الأنبياء لأنهم فضلوهم بالرسالة والنبوة ومعاناة الأمم والتعليم وجعل الملائكة خدما لهم ، ولأن في قولنا بأن صالحا من بني آدم خير من جبريل شناعة عظيمة علينا من حيث سوينا بينه وبين رتبة الأنبياء مع جلالة جبريل وعظمته وشرفه عند الله ، فإن جبريل سفير الرحمن وحامل وحيه إلى الأنبياء .

ثم قال : واستدل من قال بالعموم بما روى أبو هريرة - رضي الله عنه - قال : خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أن قال : " أوسعوا لمن خلفكم " . فقلنا : ولمن نوسع يا رسول الله ؟ قال : " للملائكة إنهم إذا كانوا معكم لم يكونوا بين أيديكم ولا من خلفكم وإنما يكونون عن أيمانكم وشمائلكم " . قالوا : من فضلنا عليهم أو من فضلهم علينا ؟ قال : " أنتم أفضل منهم " . وأيضا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " المؤمن أكرم على الله من الملائكة الذين عنده " . وأيضا اللفظ المشهور : " إن الله تعالى يباهي ملائكته بأهل عرفات " . ولا يباهي إلا بالأفضل ، وأيضا فإن جبريل افتخر بأن يسمى من أهل البيت ، وسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدخله تحت الكساء ، وكان تحته فاطمة والحسن والحسين . انتهى .

والجواب عن هذا : أما حديث أبي هريرة الأول فموضوع لا تحل روايته فضلا عن الاحتجاج به ، وممن حكم بوضعه الحافظ ابن حجر في المطالب العالية وأورده الحافظ ابن الجوزي في الموضوعات باختصار ، فلم يذكر قوله قالوا : من فضلنا عليهم إلخ وحكم بوضعه ، وأما حديث : " المؤمن أكرم على الله من الملائكة الذين عنده " . فالمعروف من لفظ الحديث : " المؤمن أكرم على الله من بعض ملائكته " . كذا رواه ابن ماجه وهذا اللفظ لا يدل على تفضيل الأولياء على جميع الملائكة بل على بعضهم ، وحديث المناهاة لا يدل [ ص: 405 ] على الأفضلية .

وأما حديث أن جبريل - عليه السلام - افتخر بأن يسمى من أهل البيت وسؤاله النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدخله تحت الكساء ، فلا أصل له ، قال الحافظ السيوطي : لم أقف له على أصل في شيء من كتب الحديث ، وكيف يجسر أحد على تفضيل غير الأنبياء من البشر على جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل مع ما في صحيح البخاري ؟ عن ابن أبي مليكة قال : أدركت ثلاثين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، كلهم يخاف النفاق على نفسه ما منهم أحد يقول إنه على إيمان جبريل وميكائيل . وقال سراج الدين البلقيني : الأكثر من الأشاعرة على تفضيل الأنبياء على الملائكة ، وذهب القاضي أبو بكر الباقلاني والحليمي إلى أن الملائكة العلوية أفضل ، وينبغي أن يكون محل الخلاف في غير النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو أفضل خلق الله أجمعين ، قال : وأما الصالحون من البشر غير الأنبياء فأكثر العلماء على تفضيل الملائكة عليهم ، وعندنا أن من كان منهم تقيا نقيا موافيا الموت على ذلك فقد يفضل على الملك باعتبار المشقات في عبادته ، مع ما فيه من الدواعي إلى الشهوة وغيرها ولا سيما من كان خليفة سيد الأولين والآخرين - عليه أفضل الصلاة والسلام - . وقال الشيخ بدر الدين الزركشي في شرح جمع الجوامع : أما تفضيل الأنبياء على الملائكة فهو عقيدة الأشعري وجمهور أصحابه ، وهو آخر أقوال أبي حنيفة فيما ذكره شمس الأئمة ، لاجتماع العصمة مع التركيب المعرض للنوائب التي يجب الصبر عليها والشهوات التي يجب الصبر عنها ، ومن أحسن الأدلة قوله تعالى بعد ذكره جماعة من الأنبياء : ( وكلا فضلنا على العالمين ) والملائكة من العالمين فدل على أنهم أفضل منهم ، وقوله تعالى : ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية جزاؤهم عند ربهم جنات عدن ) وأراد بني آدم لأن الملائكة لا يجازون بل هم خدم أهل الجنة ، ولأن بالأنبياء قامت حجة الله على خلقه بخلاف الملائكة حتى قال تعالى : ( ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا ) ولأن آدم سجد له الملائكة ، والمسجود له أفضل من الساجد كما تقدم ثم في الأنبياء من هو أفضل من آدم ، ولأن الناس في الموقف إنما يتشفعون بالأنبياء لا بالملائكة . وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام : لا شك أن [ ص: 406 ] للبشر طاعات لم يثبت مثلها ( للملائكة ) كالجهاد والغزو ومخالفة الهوى ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والصبر على البلايا والمحن والرزايا ، وقد ثبت أنهم يرون ربهم ويبشرهم بإحلال رضوانه عليهم ، ولم يثبت مثل هذا للملائكة . وقال بعض المحققين : اتفقوا على أن العصاة من المؤمنين دون الأنبياء والملائكة ، فأما المطيعون فقد اختلفوا في المفاضلة بينهم وبين الملائكة على قولين : وقال ابن يونس من الشافعية في مختصره في الأصول بعد ذكر القولين ، وقال الأكثرون منا : المؤمن الطائع أفضل من الملائكة .

وقال ابن المنير : مذهب أهل السنة أن الرسول أفضل من الملك باعتبار الرسالة لا باعتبار عموم الأوصاف البشرية ، ولو كانت البشرية بمجردها أفضل من الملائكة ( لكان كل البشر أفضل من الملائكة ) ومعاذ الله . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية