الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( الثاني ) متعلق وجوب الإنكار الرؤية للمنكر وتحققه ، فلو كان مستورا فلم يروه ولكن علم به ، فالمذهب يجب عليه الإنكار لتحققه والمنصوص عن الإمام أحمد أنه لا يتعرض له ولا يفتش على ما استراب ، وقد روي عنه أنه يكسر المغطى إذا تحققه وهذا المعتمد ، وأما إذا سمع صوت ملهاة ولم يعلم مكانه فلا شيء عليه ، وأما تسور الجدران على من علم اجتماعهم على منكر فقد أنكره الأئمة مثل سفيان الثوري وغيره ، وهو داخل في التجسس المنهي عنه ، نعم قال القاضي أبو يعلى في كتابه الأحكام السلطانية : إن كان في المنكر الذي غلب على ظنه الاستسرار به بإخبار ثقة عنه انتهاك حرمة يفوت استدراكها كالزنا والقتل جاز التجسس والإقدام على الكشف والبحث حذرا من فوات استدراك انتهاك المحارم ، وإن كان دون ذلك في الرتبة لم يجز التجسس عليه ولا الكشف عنه . انتهى .

وحكمة عدم وجوب التفتيش مع وجود النصوص على التجسس أن المعاصي إذا خفيت إنما تضر من يعملها ، وإذا أعلنت ضرت العامة فأخرج الإمام أحمد من حديث عدي بن عميرة - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكرونه ، فإذا فعلوا [ ص: 434 ] ذلك عذب الله الخاصة والعامة " . وخرج الإمام أحمد أيضا وابن ماجه من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن الله تعالى ليسأل العبد يوم القيامة حتى يقول : ما منعك إذ رأيت المنكر أن تنكره ؟ فإذا لقن الله عبدا حجته قال : يا رب رجوتك وفرقت الناس " . وأخرجا من حديثه أيضا مرفوعا : " لا يحقر أحدكم نفسه ، قالوا : يا رسول كيف يحقر أحدنا نفسه ؟ قال : يرى أمرا لله عليه فيه مقال ثم لا يقول فيه ، فيقول الله له يوم القيامة : ما منعك أن تقول في كذا وكذا ؟ فيقول خشية الناس ، فيقول : إياي كنت أحق أن تخشى " .

فهذا محمول على أن المانع له من الإنكار مجرد الهيبة دون الخوف المسقط للإنكار ، فإن خاف على نفسه السيف أو السوط أو الحبس أو القيد أو النفي أو أخذ المال ونحو ذلك من الأذى ، أو خاف مثل ذلك على أهله وجيرانه سقط وجوب الإنكار ، وقد نص على ذلك الأئمة منهم مالك بن أنس وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وغيرهم . قال الإمام أحمد : لا يتعرض للسلطان فإن سيفه مسلول . وقال ابن شبرمة : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كالجهاد يجب على الواحد أن يصابر فيه الاثنين ويحرم عليه الفرار منهما ولا يجب عليه مصابرة أكثر من ذلك . وأما مجرد خوف السب أو سماع الكلام السيئ فلا يسقط الإنكار - نص عليه الإمام أحمد ، وإن احتمل الأذى وقوي عليه فهو أفضل . نص عليه وقال : " أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر " . وهذا رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي من حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - مرفوعا ، وخرج ابن ماجه معناه في حديث أبي أمامة .

وفي مسند البزار عن أمين الأمة أبي عبيدة بن الجراح - رضي الله عنه - قال : قلت : يا رسول الله أي الشهداء أكرم على الله ؟ قال : " رجل قام إلى إمام جائر فأمره بمعروف ونهاه عن منكر فقتله " ، وحديث : " لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه " يدل على أنه علم أنه لا يطيق الأذى ولا يصبر عليه ، فلا يتعرض حينئذ للأمر والنهي ، وهذا حق وإنما الكلام فيمن علم من نفسه الصبر ، كذلك قاله الإمام أحمد وسفيان والفضيل بن عياض وغيرهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية