ولما كان صلاح العباد في المعاش والمعاد لا يتم ولا يصلح ولا يستقيم لهم حال إلا بذلك قال :
( ( واعلم بأن الأمر والنهي معا فرضا كفاية على من قد وعا ) )
( ( وإن يكن ذا واحدا تعينا عليه لكن شرطه أن يأمنا ) )
( ( فاصبر وزل باليد واللسان لمنكر واحذر من النقصان ) )
( ( وإن يكن ذا ) ) أي الذي علم بالمنكر وتحققه وشاهده وهو عارف بما ينكر ( ( واحدا ) ) أو كانوا عددا ولكن لا يحصل المقصود إلا بهم جميعا ( ( تعينا ) ) أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وصارا فرض عين ( ( عليه ) ) أو عليهم للزومه عليهم ( ( ولكن شرطه ) ) أي شرط افتراضه على الجماعة [ ص: 428 ] أو الواحد سواء كانا فرض كفاية أو عين ( ( أن يأمنا ) ) بألف الإطلاق على نفسه وماله ولم يخف سوطا ولا عصا ولا أذى ولا فتنة تزيد على المنكر ، وقيل إذا زادت وجب الكف ، وإن تساويا سقط الإنكار . قال - رضي الله عنه - : يأمر بالرفق والخضوع ، فإن أسمعوه ما يكره لا يغضب فيكون يريد أن ينتصر . ولهذا قال : " فاصبر " على الأذى ممن تأمره وتنهاه ولا تغضب لنفسك ، بل لله ، ( وزل ) المنكر وغيره من زاله عن مكانه يزيله زيلا وإزالة وإزالا ( ( باليد ) ) وهو الإمام أحمد ، وإزالة المنكر كإراقة الخمر ، وكسر أواني الذهب والفضة ، والحيلولة بين الضارب والمضروب ونحوه ، ورد المغصوب إلى مالكه ، ( ( و ) ) غير المنكر بـ ( ( اللسان ) ) حيث لم تستطع تغييره باليد بأن تعظه وتذكره بالله وأليم عقابه وتوبخه وتعنفه مع لين وإغلاظ بحسب ما يقتضيه الحال ، وقد يحصل المقصود في بعض المحال بالرفق والسياسة بأزيد وأتم مما يحصل بالعنف والرياسة ، كأن يقول لمن رآه متكشفا في نحو حمام : استر سترك الله ، ونحو ذلك ( ( لمنكر ) ) متعلق بزل وفي نسخة بدل زل " ذد " أي اطرد وامنع للمنكر باليد واللسان ، ( ( واحذر ) ) من النزول عن أعلى المراتب حيث قدرت على أن أعلى درجات الإنكار إلى أوسطها وهو الإنكار باللسان إلا مع العجز عن ذلك ، ثم إنه لا يسوغ لك العدول عن تغير المنكر بيدك وأنت تقدر عليه إلى الإنكار بالقلب ، التغيير للمنكر باللسان وهو أضعف الإيمان ، فلذا حذر ( ( من النقصان ) ) . فإن لم تستطع تغيير المنكر لا بيدك ولا بلسانك فاعدل إلى الإنكار بقلبك
وأشار بذلك إلى حديث - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " أبي سعيد الخدري " . رواه من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان مسلم والترمذي وابن ماجه ، ولفظه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " والنسائي " . وفي صحيح من رأى منكم منكرا فغيره بيده فقد برئ ، ومن لم يستطيع أن يغيره بيده فغيره بلسانه فقد برئ ، ومن لم يستطيع أن يغيره بلسانه فغيره بقلبه فقد برئ ، وذلك أضعف الإيمان مسلم أيضا من حديث - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه [ ص: 429 ] وسلم - قال : " ابن مسعود " . وفي هذا الباب عدة أحاديث وقد دلت كلها على ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب ، يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون ، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن ، ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل ، وأن إنكاره بالقلب لا بد منه ، فمن لم ينكر قلبه المنكر دل على ذهاب الإيمان من قلبه . إنكار المنكر بحسب القدرة عليه
وقد روي عن أبي جحيفة - رضي الله عنه - قال قال علي - رضي الله عنه - : إن أول ما تغلبون عليه من الجهاد الجهاد بأيديكم ، ثم الجهاد بألسنتكم ، ثم الجهاد بقلوبكم ، فمن لم يعرف قلبه المعروف ، وينكر قلبه المنكر نكس ، فجعل أعلاه أسفله . وقال - رضي الله عنه - : هلك من لم يعرف المعروف وينكر المنكر بقلبه . يشير إلى أن معرفة المعروف والمنكر بالقلب فرض لا يسقط عن أحد ، فمن لم يعرفه هلك ، وأما الإنكار باليد واللسان فإنما يجب بحسب الطاقة . وفي سنن ابن مسعود أبي داود عن العرس بن عميرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " " . وخرج إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها كمن غاب عنها ، ومن غاب عنها ورضيها كان كمن شهدها نحوه عن ابن أبي الدنيا مرفوعا . أبي هريرة
واعلم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع كون ذلك واجبا تارة يحمل عليه رجاء الثواب ، وتارة خوف العقاب في تركه ، وتارة الغضب لله على انتهاك محارمه ، وتارة النصيحة للمؤمنين والرحمة لهم ، ورجاء إنقاذهم مما أوقعوا أنفسهم فيه من التعرض لغضب الله وعقوبته في الدنيا والآخرة ، وتارة يحمل عليه إجلال الله وإعظامه ومحبته وأنه أهل أن يطاع فلا يعصى ، ويذكر فلا ينسى ، ويشكر فلا يكفر ، وأن يفتدى من انتهاك محارمه بالنفوس والأموال كما قال بعض السلف : وددت أن الخلق كلهم أطاعوا الله وأن لحمي قرض بالمقاريض .
فمن لحظ ما ذكرناه هان عليه ما يلقاه من الأذى في الله - عز وجل - ، قال - قدس الله روحه - : سفيان الثوري : رفيق بما يأمر رفيق بما ينهى ، عدل بما يأمر عدل [ ص: 430 ] بما ينهى ، عالم بما يأمر عالم بما ينهى . وقال لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا من كانت فيه خصال ثلاث - رضي الله عنه - : الناس يحتاجون إلى مداراة ورفق ، الأمر بالمعروف بلا غلظة إلا رجل معلن بالفسق فلا حرمة له . ولاعتبار كون الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر عدلا بما ينهى ، أشار بقوله : الإمام أحمد