الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
( الخامسة ) : من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - ما أشار إليها بقوله " كن " بما اختصه الله سبحانه وتعالى بـ ( ( المعراج ) ) إلى السموات العلى إلى سدرة المنتهى إلى مستوى سمع فيه صريف الأقلام ، فكان قاب قوسين أو أدنى ، قال الواقدي عن رجاله : كان المسرى والمعراج في ليلة السبت لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان في السنة الثانية عشرة من المبعث قبل الهجرة بثمانية عشر شهرا .

وروى أيضا عن أشياخ له قالوا : أسري برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة سبع عشرة من ربيع الأول قبل الهجرة بسنة . وادعى أبو محمد بن حزم فيه الإجماع ، وهذا قول ابن عباس وعائشة - رضي الله عنهم . قال الحافظ ابن الجوزي في الوفاء : سمعت شيخنا أبا الفضل يقول : قال قوم : كان الإسراء قبل الهجرة بسنة ، وقال آخرون : كان الإسراء قبل الهجرة بثمانية أشهر ، وقال آخرون : بستة أشهر ، فمن قال بسنة فيكون ذلك في ربيع الأول ، ومن قال بثمانية أشهر فيكون ذلك في رجب ، ومن قال بستة أشهر فيكون ذلك في رمضان . قال ابن الجوزي : وقد قيل إنه ليلة سبعة وعشرين من شهر رجب . قلت : واختار هذا القول الحافظ عبد الغني المقدسي الحنبلي وعليه عمل الناس ، وكان المعراج إلى السماء بجسده الشريف وروحه المقدسة كالإسراء من مكة المشرفة إلى المسجد الأقصى ، ثم عرج به من بيت المقدس إلى السماء ، أحق هذا ( ( حقا ) ) ثابتا ، وأجزم جزما باتا ( ( بلا مين ) ) أي : بلا امتراء ولا ريب ، يقال مان يمين : كذب فهو مائن وميون وميان ( ( ولا اعوجاج ) ) يقال اعوج اعوجاجا إذا كان غير مستقيم ، قال في [ ص: 281 ] النهاية : قد تكرر ذكر العوج في الحديث اسما وفعلا ومصدرا وفاعلا ومفعولا ، وهو بفتح العين المهملة مختص بكل شخص مرئي كالأجسام ، وبالكسر فيما ليس بمرئي كالرأي والقول ، وقيل الكسر فيهما معا ، والأول أكثر ، ومنه الحديث " حتى يقيم به الملة العوجاء " يعني ملة إبراهيم التي غيرتها العرب عن استقامتها . واعلم أن الإسراء لا خلاف فيه إذ هو نص القرآن العظيم على سبيل الإجمال ، وجاءت السنة الثابتة بتفصيله وشرح أعاجيبه ، فورد عن عدة من الصحابة الكرام من الرجال والنساء نحو الثلاثين - رضي الله عنهم - أجمعين ، وأما ليلة المعراج فاختلف فيها ، فقيل : ليلة الجمعة ، وقيل : ليلة السبت كما تقدم عن الواقدي ، وقال ابن دحية : تسفر تلك الليلة عن يوم الاثنين إن شاء الله تعالى لتوافق المولد والمبعث والهجرة والوفاة ، فإنه - صلى الله عليه وسلم - ولد يوم الاثنين ، وبعث يوم الاثنين ، وهاجر من مكة يوم الاثنين ، ودخل المدينة يوم الاثنين ، ومات يوم الاثنين .

وقد أخرج الإمام أحمد والبخاري ومسلم ، وغيرهم من حديث أنس - رضي الله عنه - أن مالك بن صعصعة - رضي الله عنه - حدثه أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - حدثهم عن ليلة الإسراء قال : ( ( بينما أنا نائم في الحطيم - وربما قال قتادة في الحجر - مضطجع إذ أتاني آت ، فجعل يقول لصاحبه : الأوسط بين الثلاثة ، قال فأتاني فقد - وقال مرة فشق - ما بين هذه إلى هذه ، قال قتادة : فقلت للجارود وهو إلى جنبي : ما يعني ؟ فقال : من ثغرة نحره إلى شعرته ، وقد سمعته يقول من قصه إلى شعرته ، قال : فاستخرج قلبي ، فأتيت بطست من ذهب مملوء إيمانا وحكمة فغسل قلبي ثم حشي - وفي لفظ : فأفرغه في صدره وملأه علما وحلما ويقينا وإسلاما ثم أطبقه ثم أعيد ، ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض - قال : فقالالجارود : هو البراق يا أبا حمزة ؟ ، قال نعم - يقع خطوه عند أقصى طرفه ، قال : فحملت عليه . ولما أراد - صلى الله عليه وسلم - العروج إلى السماء بعد وصوله إلى البيت المقدس ، وصلاته بالأنبياء عليهم السلام أتي بالمعراج الذي تعرج عليه أرواح الأتقياء من بني آدم ، فلم تر الخلائق أحسن منه ، له مرقاة فضة ، ومرقاة من ذهب ، وهو من جنة الفردوس منضد باللؤلؤ ، عن يمينه ملائكة ، وعن يساره ملائكة ، فارتقى عليه هو وجبريل [ ص: 282 ] عليهما الصلاة والسلام من عند القبة التي يقال لها قبة المعراج عن يمين الصخرة ، قال بعض أهل العلم : إنه لم يختلف أنه عرج من ثم ، وظاهر صنيع الحافظ ابن الجوزي في الوفاء أن البراق ترقى به ، أي النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قال ، ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار يقع خطوه عند أقصى طرفه ، قال : فحملت عليه فانطلق بي جبريل حتى أتى بي السماء الدنيا ، فاستفتح - الحديث بطوله ، وهو في الصحيحين وغيرهما .

وقال بعضهم : وقد صحت الأحاديث بأنه استمر على البراق إلى بيت المقدس ثم نصب له المعراج فارتقى فيه ، وظاهره أنه لم يركب البراق إلا من مكة إلى البيت المقدس . وجمع بعضهم بأن الراوي اختصر فلم يذكر بيت المقدس ، وبعضهم أنه لما وصل في العروج إلى السماء الدنيا ركب البراق ، واخترق به السماوات وما فوقها إلى أن وصل إلى سدرة المنتهى ، ثم بعد سؤاله - صلى الله عليه وسلم - ربه ، ومراجعته له في التخفيف عن أمته حتى انتهى ذلك من الخمسين إلى الخمس صلوات ، وسماع النداء من العلي الأعلى : قد أمضيت فريضتي ، وشفعت نبيي ، وخففت عن عبادي ، هن خمس صلوات كل يوم وليلة ، وهن خمسون في الأجر لأن الحسنة بعشر أمثالها ، وسمع قوله ( ما يبدل القول لدي ) ولا ينسخ كتابي ، وكانت المراجعة ما بين الحق جل جلاله وبين موسى عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم ، فإنه الذي حث النبي الكريم على مراجعة الرب الرحيم سؤاله التخفيف عن هذا الخلق الضعيف ، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في موسى عليه الصلاة السلام : ونعم الصاحب كان لكم . أي : معشر الأمة ، ثم قال له موسى عليه الصلاة والسلام : اهبط باسم الله . ولما دنا المصطفى من العلي الأعلى ، وحل في مستوى سمع فيه صريف الأقلام وكلمه الجليل جل جلاله فقال : يا محمد ، قال : لبيك يا رب ، قال : سل . قال : إنك اتخذت إبراهيم خليلا وأعطيته ملكا عظيما ، وكلمت موسى تكليما ، وأعطيت داود ملكا عظيما ، وألنت له الحديد وسخرت له الجبال ، وأعطيت سليمان ملكا عظيما ، وسخرت له الجن والإنس والشياطين ، وسخرت له الرياح ، وأعطيته ملكا لا ينبغي لأحد من بعده ، وعلمت عيسى التوراة والإنجيل ، وجعلته يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذنك ، وأعذته وأمه من الشيطان الرجيم ، فلم يكن [ ص: 283 ] للشياطين عليهما سبيل . فقال الله سبحانه وتعالى : وقد اتخذتك حبيبا - قال الراوي : وهو مكتوب في التوراة حبيب الله - وأرسلتك للناس كافة بشيرا ونذيرا ، وشرحت لك صدرك ، ووضعت عنك وزرك ، ورفعت لك ذكرك ، لا أذكر إلا تذكر معي ، وجعلت أمتك خير أمة أخرجت للناس ، وجعلت أمتك أمة وسطا ، وجعلت أمتك هم الأولون والآخرون ، وجعلت أمتك لا تجوز لهم خطبة حتى يشهدوا أنك عبدي ورسولي ، وجعلت من أمتك أقواما قلوبهم أناجيلهم ، وجعلتك أول النبيين خلقا وآخرهم بعثا ، وأول من يقضى له ، وأعطيتك سبعا من المثاني لم أعطها نبيا قبلك ، وأعطيتك خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش لم أعطها نبيا من قبلك ، وأعطيتك الكوثر ، وأعطيتك ثمانية أسهم : الإسلام والهجرة ، والجهاد والصدقة ، والصلاة وصوم رمضان ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وإني يوم خلقت السماوات والأرض فرضت عليك وعلى أمتك خمسين صلاة - كل هذا الخطاب في حال قربه من رب العالمين - ثم إن الله تعالى خفف عن عباده الفعل من خمسين إلى خمس ، وأبقى لهم ثواب الخمسين تفضيلا منه تعالى ، وتكرما على نبيه المصطفى ، وعلى أمته ببركته ، وكان - صلى الله عليه وسلم - لما وصل إلى سدرة المنتهى غشيته سحابة فيها من كل لون ، فتأخر جبريل ثم عرج بالنبي - صلى الله عليه وسلم - حتى وصل لمستوى سمع فيه صرير الأقلام فدنا من الحضرة الإلهية حتى كان قاب قوسين أو أدنى ، أي : أو أقرب ، أي : بل أقرب من ذلك ، ثم انجلت عنه السحابة فأخذ جبريل بيده ، فانصرف سريعا فمر على إبراهيم فلم يقل شيئا ، ثم أتى على موسى ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم : ونعم الصاحب كان لكم ، فقال : ما صنعت يا محمد ؟ ما فرض عليك ربك وعلى أمتك ؟ قال النبي - صلى الله عليه وسلم : فرض علي وعلى أمتي خمسين صلاة كل يوم وليلة ، قال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف عنك وعن أمتك ، فإن أمتك لا تطيق ذلك ، فإني خبرت الناس قبلك وبلوت بني إسرائيل وعالجتهم أشد المعالجة على أدنى من هذا فضعفوا وتركوه ، فأمتك أضعف أجسادا وأبدانا وقلوبا وأبصارا وأسماعا ، فالتفت النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى جبريل يستشيره ، فأشار إليه جبريل أن نعم إن شئت ، فرجع سريعا حتى انتهى إلى الشجرة ، فغشيته السحابة وخر [ ص: 284 ] ساجدا وقال : رب خفف عن أمتي ، فإنها أضعف الأمم ، قال : وضعت عنكم خمسا ، وهكذا إلى أن بقيت الخمس . وهذا في صحيح مسلم من حديث أنس - رضي الله عنه - والذي في المسند والصحيحين وغيرهما عن أنس عن مالك بن صعصعة - رضي الله عنه تعالى : حط عنه عشرا ثم عاد فحط عنه عشرا ثم عاد فحط عنه عشرا ، وكذلك هو في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه .

قال الإمام الحافظ ابن الجوزي في الوفاء ، وهذا أصح لاتفاق البخاري ومسلم عليه من حديث أنس عن مالك ، ومن حديث أنس نفسه أيضا ، وذكر المراجعة خمس مرات ، وقال عن رواية أنه حط خمسا : غلط من الراوي . انتهى .

وقال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري : كون الحط كان خمسا خمسا أصح ، ولفظه : قد حققت رواية ثابتة أن التخفيف كان خمسا خمسا ، وهي زيادة معتمدة يتعين حمل باقي الروايات عليها . انتهى

قلت : ولمناقشته وجه وجيه من أمور أحدها : أن كون التخفيف عشرا عشرا أليق بكرم الكريم ، الثاني : اتفاق الصحيحين عليه من حديث أنس ومن حديث مالك بن صعصعة ، وأما كونه خمسا خمسا فمن أفراد مسلم ، وما اتفق عليه الصحيحان أصح .

الثالث : كونه عشرا أقل مراجعة . الرابع : أن حديث أنس من كونه كان خمسا صادق بأن الحط في الخامسة خمس فيصدق عليه بأن الحط كان خمسا في الجملة ، والحاصل أن كون الحط كان عشرا أصح ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية