( ( وأفضل العالم من غير امترا نبينا المبعوث في أم القرى ) )
[ ص: 295 ] ( ( وأفضل العالم ) ) العلوي والسفلي من ملك وبشر وجن في الدنيا والآخرة في سائر خلال الخير وخصال الكمال ونعوت المكارم والجمال ، ( ( من غير امترا ) ) أي من غير شك ولا ريب ، قال في القاموس : العالم الخلق كله أو ما حواه بطن الفلك ، ( ( نبينا ) ) خبر المبتدأ الذي هو أفضل العالم محمد ( ( المبعوث ) ) رسولا لكافة الناس بل للثقلين الإنس والجن قيل : والملائكة وتقدم ذلك ، ( ( في أم القرى ) ) مكة المشرفة وبكة المعظمة قال تعالى : ( لتنذر أم القرى ) يعني مكة .قال الحافظ ابن الجوزي في كتابه مثير الغرام الساكن إلى أشرف الأماكن : في تسميتها بذلك أربعة أقوال : ( أحدها ) لأن الأرض دحيت من تحتها قاله - رضي الله عنهما - وقال ابن عباس ابن تيمية : لأنها أقدمها ، ( الثاني ) لأنها قبلة يؤمها جميع الناس ، ( الثالث ) لأنها أعظم القرى شأنا ، ( الرابع ) لأن فيها بيت الله - عز وجل - ولما اطردت العادة بأن بلد الملك وبيته هو المتقدم على الأماكن سمى أما لأن الأم متقدمة .
وإنما كان أفضل خلق الله تعالى لأن الله تعالى أيده بأبهر المعجزات وأظهر الدلالات وأشهر المكرمات ، فمعجزاته أشهر المعجزات وأبهرها ، وأمته أزكى الأمم وأطهرها ، وشريعته أتم الشرائع وأشهرها ، وصفاته أكمل الصفات وأشرفها ، وأخلاقه أحسن الأخلاق وأعرفها وأوسعها ، وشيمه أعلى الشيم وأنفعها .
ومن عظم ما يدل على - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - أن الله - سبحانه وتعالى - أقسم بحياته ، وفي شرعه إنما تنعقد الأيمان بأسماء الله تعالى وصفاته وكلامه لا بدون ذلك ، قال الإمام تعظيم نبينا وفضله على سائر الأنبياء الحافظ ابن الجوزي في الوفاء : أقسم الحق - عز وجل - بحياته وإنما يقع القسم بالمعظم وبالمحبوب ، قال الله تعالى : ( لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون ) .
وأخرج الترمذي وغيره من حديث - رضي الله عنهما - قال : ما خلق الله وما ذرأ نفسا هي أكرم عليه من ابن عباس محمد - صلى الله عليه وسلم - وما سمعته أقسم بحياة أحد غيره فقال ( لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون ) . قال الإمام ابن عقيل - رحمه الله تعالى - : وأعظم من قوله تعالى لموسى : ( واصطنعتك لنفسي ) قوله تعالى : ( إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله ) وبيان ذلك أنه جعل [ ص: 296 ] اللام في قوله واصطنعتك لنفسي التي هي للملك أو الاختصاص بينه وبينه ، ولم يجعل بينه تعالى وبين سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - واسطة بل قال : ( إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله ) وقوله تعالى : ( لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد ) المعنى أقسم بك لا بالبلد فإن أقسمت بالبلد فلأنك فيه ، ثم قال ابن عقيل : يا موسى اخلع نعليك ولا تجئ إلا ماشيا ، يا محمد اركب البراق ولا تجئ إلا راكبا .
وأخرج وصححه الطبراني من حديث وابن حبان - رضي الله عنه - مرفوعا : " أبي سعيد الخدري جبريل فقال : يقول لك ربك : أتدري كيف رفعت لك ذكرك ؟ قال : الله أعلم . قال : " إذا ذكرت ذكرت معي " . وأخرجه أتاني الشافعي وسعيد بن منصور وعبد الرزاق من طريق مجاهد ، قال - رضي الله عنهما - : يريد الأذان والإقامة والتشهد والخطبة على المنابر ، قال : ولو أن عبدا عبد الله وصدقه في كل شيء ولم يشهد أن ابن عباس محمدا رسول الله لم ينتفع بشيء وكان كافرا . وقال قتادة : رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة ، فليس خطيب ولا متشهد ولا صاحب صلاة ولا أذان إلا ينادي أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ، وفيه يقول - رضي الله عنه - : حسان بن ثابت
أغر عليه للنبوة خاتم من الله مشهود يلوح ويشهد
وضم الإله اسم النبي إلى اسمه إذا قال في الخمس المؤذن أشهد
وشق له من إسمه ليجله فذو العرش محمود وهذا محمد
قال الواحدي : أعلمهم الله فضل النبي - صلى الله عليه وسلم - على سائر البرية في المخاطبة وأمرهم أن يفخموه ويشرفوه ، ولا يقولوا له عند دعائه يا محمد يا ابن عبد الله كما يدعون بعضهم بعضا ، بل يقولون يا رسول الله يا نبي الله في لين وتواضع وخفض .
وذكر في الوفاء عن ابن الجوزي - رضي الله عنهما - في قوله تعالى : ( ابن عباس لا تجعلوا دعاء الرسول ) الآية ، قال : كانوا يقولون يا محمد يا أبا القاسم فنهاهم الله تعالى عن ذلك إعظاما لنبيه فقالوا يا نبي الله يا رسول الله . وحكي عن الحسن نحوه ، رواه أبو نعيم ، وهذا بخلاف الأمم السالفة فإنهم كانوا يخاطبون أنبياءهم بأسمائهم .
- صلى الله عليه وسلم - كثيرة شهيرة فهو أفضل خلق الله تعالى - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وصحبه . وفي صحيح وفضائله ومزاياه مسلم وغيره من حديث - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " أبي هريرة أنا سيد ولد آدم يوم القيامة وأول من ينشق عنه القبر وأول شافع ومشفع " . وفي الترمذي من حديث - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أنس بن مالك " . قال أنا أول الناس خروجا إذا بعثوا ، وأنا خطيبهم إذا وفدوا ، وأنا مبشرهم إذا أيسوا ، لواء الحمد بيدي وأنا أكرم [ ص: 298 ] ولد آدم على ربي ولا فخر : أراد لا أتبجح بهذه الأوصاف لكن أقولها شكرا ومنبها على إنعام ربي علي . وفي حديث ابن الأنباري جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " موسى كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني " . والذي نفسي بيده لو أن
فإن قيل : قد إبراهيم ، وقال : قال - صلى الله عليه وسلم - لمن قال له يا خير البرية : ذاك موسى . وقال : لا تخيروني على لا تفاضلوا بين الأنبياء . وقال - صلى الله عليه وسلم - : يونس بن متى ، فالجواب أنه - صلى الله عليه وسلم - إما أن يكون قال ذلك قبل أن يعلمه الله تعالى أنه سيد الأولين والآخرين فلما أعلمه الله - سبحانه وتعالى - بذلك أخبر به ، وإما أنه قال ذلك تواضعا وتأدبا واحتراما لخلة ما ينبغي لعبد أن يقول إني خير من إبراهيم - عليه السلام - وإما أنه أراد برية عصر إبراهيم ، أو أن النهي إنما هو عن تفضيل يؤدي إلى تنقيص المفضول ، أو يؤدي إلى الخصومة والفتنة كما هو المشهور في سبب ورود تلك الأحاديث ، أو لأن النهي عن نفسها ، وذلك قد لا يتصور فيها بل في خصائصها وتوابعها ، والحق أنه ورد النص بتفضيل بعض الرسل على بعض فقد قال تعالى : ( التفضيل في النبوة تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض ) .
والحاصل أنه - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك قبل العلم بتفضيل الله له على سائر الأنبياء والرسل ، مع مراعاته لعلو مراتبهم الباذخة وجلالة مناصبهم الشامخة ، ثم أعلمه الله تعالى بأنه سيد الأولين والآخرين وأفضل جميع الأنبياء والمرسلين ، وأمر بتبليغ ذلك فبلغه كما أمر ، لأن اعتقاد ذلك حق لازم وفرض جازم مع مجانبة التفضيل المؤدي إلى تنقيص المفضول ، ومراعاة علو تلك المراتب التي لا تدرك كنه حقائقها أكثر العقول ، فالنبي المصطفى أفضل الخلق جميعا بلا خفاء - صلى الله عليه وسلم - وعلى سائر الأنبياء والمرسلين والحمد لله رب العالمين .