الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
( تنبيه ( لم يكن نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة على دين قومه ، بل ولد مسلما مؤمنا كما قال ابن عقيل وغيره ، قال في نهاية المبتدئين : قال ابن عقيل : لم يكن - صلى الله عليه وسلم - على دين سوى الإسلام ، ولا كان على دين قومه قط ، بل ولد نبينا مؤمنا صالحا على ما كتبه الله وعلمه من حاله . انتهى .

وقال الحافظ ابن رجب في كتابه لطائف المعارف : وقد استدل الإمام أحمد - رضي الله عنه - بحديث العرباض بن سارية السلمي - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " إني عند الله في أم الكتاب لخاتم النبيين وإن آدم - عليه السلام - لمنجدل في طينته " - رواه الإمام أحمد وروى معناه من حديث أبي أمامة الباهلي - رضي الله عنه - [ ص: 306 ] ومن وجوه أخر مرسلة وخرج الحاكم أيضا حديث العرباض وقال : صحيح الإسناد - على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يزل على التوحيد مذ نشأته ، ورد بذلك على من زعم غير ذلك .

قال الحافظ : بل يستدل بذلك على أنه - صلى الله عليه وسلم - ولد نبيا ، فإن نبوته وجبت له من حين أخذ الميثاق ، حيث استخرج من صلب آدم فكان نبيا من حينذ ، لكن كانت مدة خروجه إلى الدنيا متأخرة عن ذلك ، وذلك لا يمنع كونه نبيا قبل خروجه ، كمن يولى ولاية ويؤمر بالتصرف فيها في زمن مستقبل ، فحكم الولاية ثابت له من حين ولايته ، وإن كان تصرفه متأخرا إلى حين مجيء الوقت . قال الحافظ : قال حنبل : قلت لأبي عبد الله يعني الإمام أحمد - رضي الله عنه - : من زعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان على دين قومه قبل أن يبعث ؟

قال : هذا قول سوء ينبغي لصاحب هذه المقالة أن يحذر كلامه ولا يجالس . قلت : إن جارنا الناقد أبا العباس يقول هذه المقالة . قال : قاتله الله وأي شيء أبقى إذا زعم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان على دين قومه وهم يعبدون الأصنام ؟ قال الله تعالى مخبرا عن عيسى - عليه السلام - : ( ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد ) ، ثم قال الإمام أحمد - رضي الله عنه - : ماذا يحدث الناس من الكلام ؟ هؤلاء أصحاب الكلام من أحب الكلام لم يفلح ، سبحان الله لهذا القول ، واحتج الإمام أحمد برؤيا أمه النور عند ولادته حتى أضاءت له قصور الشام قال : وليس ذلك عندما ولدت رأت ذلك ! .

وقيل وقبل أن يبعث كان طاهرا مطهرا من الأوثان ، ثم قال الإمام أحمد : احذروا الكلام ، فإن أصحاب الكلام لا يئول أمرهم إلى خير . أخرجه أبو بكر عبد العزيز في كتاب السنة . قال الحافظ ابن رجب : ومراد الإمام أحمد الاستدلال بتقديم البشارة بنبوته من الأنبياء من قبل خروجه إلى الدنيا وولادته ، وهذا هو الذي يدل عليه حديث العرباض . انتهى كلام الحافظ ابن رجب ملخصا ، وقد صرح فيه بنص الإمام أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولد على الإسلام ، والله أعلم .

( ( كذاك ) ) كل واحد من الأنبياء والمرسلين قد عصم ، ( ( من إفك ) ) أي من كذب ، قال في النهاية : الإفك في الأصل الكذب ، قال في القاموس أفك كضرب وعلم إفكا بالكسر والفتح ( والتحريك و ) أفوكا كذب كأفك فهو [ ص: 307 ] أفاك وأفيك وأفوك . وفي حديث عرض نفسه - صلى الله عليه وسلم - على قبائل العرب لقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك . أي صرفوا عن الحق ومنعوا منه يقال أفكه يأفكه إفكا إذا صرفه عن الشيء .

والحاصل أن أنبياء الله ورسله - عليهم الصلاة والسلام - معصومون من الكذب ( ( و ) ) معصومون ( ( من خيانة ) ) ، ولو قلت ( ( ل ) ) وجوب ( ( وصفهم ) ) - عليهم الصلاة والسلام - ( ( بالصدق ) ) الذي هو ضد الكذب ( ( و ) ) وجوب وصفهم بـ ( ( الأمانة ) ) التي هي ضد الخيانة ، والضدان لا يجتمعان ، فالصدق واجب في حقهم عقلا وشرعا ، وهو مطابقة أخبارهم للواقع إيجابا وسلبا ، إذ لو جاز عليهم الكذب الذي هو عدم مطابقة الواقع لجاز الكذب في خبره تعالى لتصديقه إياهم بالمعجزة المنزلة منزلة قوله تعالى : صدق عبدي في كل ما يبلغ عني ، وتصديق الكاذب من العالم بكذبه محض الكذب على الله تعالى محال فلزومه كذلك .

وقد أجمعت الأمة على أن ما كان طريقه الإبلاغ فالأنبياء والرسل معصومون فيه من الإخبار عن شيء منه بخلاف الواقع لا قصدا ولا عمدا ولا سهوا ولا غلطا على تفصيل في بعض ذلك يعلم مما مر . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله سره - : يجب على الخلق الإقرار بما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فما جاء به القرآن العزيز أو السنة المعلومة وجب على الخلق الإقرار به جملة وتفصيلا عند العلم بالتفصيل ، فلا يكون الرجل مؤمنا حتى يقر بما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو تحقيق شهادة أن لا اله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، فمن شهد أنه رسول الله شهد أنه صادق فيما يخبر به عن الله تعالى ، فإن هذه حقيقة الشهادة بالرسالة ، إذ الكاذب ليس برسول فيما يكذبه وقد قال تعالى : ( ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين ) وهو عرق في القلب إذا انقطع مات صاحبه ، وبالجملة فهذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام لا يحتاج إلى تقريره ، وفي قصة هرقل مع أبي سفيان كما في الصحيح عند سؤال هرقل عظيم الروم أبا سفيان عن أوصاف النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : هل كنتم تتهمونه بالكذب ؟ - أي على الناس - قال : لا وإن كان ليدعى فينا بالأمين ، فقال : لقد علمت أنه لم يكن ليدع الكذب [ ص: 308 ] على الناس ثم يكذب على الله تعالى . فيشعر هذا أن عقلاء الأمم مطبقون على استحالة كذب الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - .

وقوله : والأمانة أي يجب لهم الأمانة وهي ضد الخيانة ، وقوله تعالى : ( إنا عرضنا الأمانة ) أي الفرائض المفروضة أو النية التي يعقدها فيما يظهره باللسان من الإيمان ، ويؤديه من جميع الفرائض في الظاهر ، لأن الله تعالى ائتمنه عليها ولم يظهرها لأحد من خلقه ، فمن أضمر من التوحيد مثل ما أظهر فقد أدى الأمانة كما في القاموس ، وقال في النهاية : الأمانة تقع على الطاعة والعبادة والوديعة والثقة والأمان . والمراد بها في حق رسل الله تعالى وأنبيائه - عليهم الصلاة والسلام - اتصافهم بحفظ ظواهرهم وبواطنهم من التلبس بمنهي عنه ، ولو نهي كراهة عند بعض العلماء ، أي كونهم لا يتصور أن يكونوا إلا كذلك إذ لو جاز عليهم أن يخونوا الله تعالى بفعل محرم أو مكروه على قول لجاز أن يكون ذلك المنهي عنه من حيث إنه منهي منه مأمورا به ، لأن الله تعالى أمرنا باتباعهم في أقوالهم وأفعالهم من غير تفصيل ، وهو تعالى لا يأمر بمحرم ولا مكروه فقد قال تعالى : ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) والمراد ما لم تقم قرينة على الخصوصية كنكاح أزيد من أربع فتختص بهم دون أممهم ، وفي الآية الكريمة : ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس ) قال شيخ الإسلام ابن تيمية - روح الله روحه - : ومعلوم أنه - صلى الله عليه وسلم - قد بلغ الرسالة كما أمر ، ولم يكتم منها شيئا ، فإن كتمان ما أنزله الله تعالى إليه يناقض موجب الرسالة ، كما أن الكذب يناقض موجب الرسالة ، قال : ومن المعلوم في دين المسلمين أنه معصوم من الكتمان لشيء من الرسالة ، كما أنه معصوم من الكذب فيها ، والأمة تشهد له بأنه بلغ الرسالة كما أمر الله تعالى ، وبين ما أنزل إليه من ربه وقد وجب على كل مسلم تصديقه في كل ما أخبر به .

التالي السابق


الخدمات العلمية